روي بدارو

الخيار الأخير

18 آب 2023

02 : 00

واجه لبنان خلال تاريخه خيارات مصيرية تجاوزها جميعاً بفضل عنايةٍ ما رعته، خصوصاً بفضل رفضه الذوبان في كيانات كبيرة، والحؤول دون التفتت إلى كيانات صغيرة، لذا صمد على المدى الطويل.

الخياران اللذان يتقدمان حالياً هما: إما إعادة تشكيل الدولة على أسس وئام، إنصاف وتكافؤ كرسها اتفاق الطائف، وإما قبول التحلل البطيء وما يتبعه من مشاريع فدرلة وتقسيم.

التحديات التي واجهها لبنان منذ قيام دولة إسرائيل أساءت إلى جذور تأسيسه، ليس فقط من حيث الناحية التاريخية بل وخاصة من حيث المستقبل. المستقبل هو خيار نتخذه وليس امتداداً لخط بياني طبيعي مُسقط من الماضي. فالاحتلالات الحديثة السورية ثم الإيرانية، مباشرة أو عبر وكلائهما، فاقمت التحديات وقوّضت الرهانات على مستقبل مشترك لطالما أراده معظم اللبنانيين.

الاستحقاق الذي نواجهه راهناً لا يكمن فقط في آنية الانتخابات الرئاسية، بل هو استحقاق وجود وديمومة كيان، كلّف تضحيات كبيرة على صعد كثيرة خصوصاً الإنسانية منها والمالية. هذا الاستحقاق الراهن والقاسي هو مصيري لنا جميعاً.

ليس بإمكان، ضمن الظروف الحالية، المرشحين الرئاسيين سليمان فرنجية وجهاد أزعور تشكيل التفاف واسع النطاق حول أي منهما، علماً بأنّ المعادلة الأفضل هي ليست بطرح من يجمع حوله غالبية أصوات، بل من لديه أقل عدد من المعترضين عليه والمعارضين له. وهذا المرشح يفترض أن يحظى بقبول «حزب الله» والسياديين معاً. أما المرشحان المذكوران أعلاه فلا يجيبان على المعادلة المفروضة.

علينا انتخاب رئيس واجبه بالحد الأدنى أن يكون مظلة دستورية لحكومة جديدة رئيسها متناغم بقوة مع رئيس الجمهورية، ومعزز بتأييد صريح من رئيس البرلمان. سيتعين على هذه البنية الجديدة للسلطة أن تبحث وتنشر أمام جميع السكان الاختلاسات وتكشف أوجه القصور والعرقلة المرتكبة من أي شخص ساهم بشكل مباشر أو غير مباشر في إيصال لبنان إلى الحالة التي وقع فيها .

إنّه «التحول»، وهذه كلمة أقوى وأعمق من كلمة الإصلاح، بينما المساءلة والإفلات من العقاب يجب أن تكونا جزءاً لا يتجزأ من «الثقافة التحولية» الجديدة التي يجب تأسيسها.

فقط الأشخاص الاستثنائيون يمكنهم فعل ذلك. إنّها معادلة صعبة، ولكنها ليست مستحيلة، صعبة بالنظر إلى التوجهات الإستراتيجية المتعارضة تماماً للمعسكرين المعنيين، نظراً لارتباطهما بالعالم الخارجي. وهذا ينطوي على خيارات متناقضة مجتمعياً لا يمكن حلها إلا من خلال الحوار. وليست مستحيلة بشرط أن يكون قادة المعسكرين على استعداد للتوصل إلى طريقة عمل معاً في الجمهورية الجديدة.

لا يمكن للبنان أن يعيش من دون أن يبرز نفسه في مستقبل ديمقراطية حقيقية وفعالة، ولا يعيش من دون اقتصاد ديناميكي مدمج في العالم المتقدم من دون إهمال دول العالم النامي. لبنان بلد منفتح ولا يمكن أن يعيش من دون ضمان شروط هذا الانفتاح على الجميع، بما في ذلك الروابط بالاتفاق مع المؤسسات الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وصناديق التنمية العربية، إلخ.

لا يستطيع المرشح فرنجية، المعروف بفروسيته وشهامته، تلبية مواصفات العالمين العربي والغربي، بالنظر إلى مواقفه الواضحة مع المقاومة الإسلامية «حزب الله» وعلاقاته بالرئيس السوري. وهذا العائق واضح إلا لمن يرفض رؤية أو قبول الحقائق السياسية أو الحقائق غير المعلن عنها.

علاوة على ذلك، أعتقد أنّ «حزب الله»، كمحلل دقيق، يعرف جيداً أنّ فرنجية لا يمكنه إعادة انطلاق العملية السياسية الجامعة والتعافي الاقتصادي، أي ما تحتاجه بشدة قاعدة «الحزب». ولا يستطيع «حزب الله» وحده، رغم المساعدات الإيرانية (والتي تقلّصت)، تلبية احتياجات المجتمع الشيعي، وسيحتاج بسرعة إلى رافعة، في أسوأ الأحوال محايدة له، للخروج من هذا المأزق.

حادثة الكحالة غيّرت قواعد اللعبة، خاصة بالنسبة لمزاج المسيحيين من جميع مشاربهم. شعر البعض للمرة الأولى أنّ الأسلحة ليست مجرد خطر محتمل، بل هي خطر دائم وجدي على حياتهم وبقائهم، وأنّ السلاح خارج الدولة هو أمر يتنافى حتماً مع سيادة القانون.

إنّ التراجع عن المواقف المتشنجة التي اتخذها هذا الطرف أو ذاك، وخاصة من قبل «حزب الله»، أمر ضروري لإيجاد هذا الهامش المطلوب من المشاركة السليمة والسلمية.

وكون «الحزب» العنصر الذي يعمل خارج سيادة القانون، مهما كانت ذرائعه، خاصة بعد ترسيم الحدود البحرية، يجب أن يبدأ هو في هذا التراجع بالتزامن مع تولي مسؤولية الجيش حصرية السلطة المسلحة، وعلى الآخرين مرافقة التغيير تدريجياً.

الثقة هي مفتاح بناء المستقبل. يجب أن يعلم «الحزب» أنّ الجهات السيادية ليست حليفة إسرائيل لا من قريب ولا من بعيد، بالرغم أنّ تلك الجهات تعتقد، أقّله على سبيل الشك، أن الهجمات والاغتيالات هي من أعمال «الحزب».

الطريق صعب للغاية، لكن من دون مبادرة جادة مدروسة واستباقية، نتجه نحو الانحلال والتعفّن الذي قد يؤدي إلى نهاية حزينة للبنان الذي نعرفه.


MISS 3