محمد علي مقلد

صراع الديكة

وثيقة الوفاق الوطني في الطائف لم تكن حداً فاصلاً بين مرحلتين إلا من الناحية النظرية. عملياً، عهد الوصاية هو الحد الفاصل. قبله كانت خطوط التماس السياسية أو العسكرية شديدة الوضوح. معه لم نعد نعرف من هي السلطة ومن هي المعارضة.

خلال الحرب الأهلية تعرض رفاق لعملية خطف وتولى أبو طارق من تنظيم «الصاعقة» تحريرهم. في طريقنا إلى مكان احتجازهم، وكان الجيش السوري يعمل كقوات ردع، تبادلنا حديثاً ودياً كحليفين لدودين. قال لي إن الرئيس حافظ الأسد سيجعل لبنان نسخة طبق الأصل عن النظام السوري، حيث الجبهة الوطنية هي المثال والنموذج. كان يريد أن يجمع تحت سقف واحد الحركة الوطنية والجبهة اللبنانية، كمال جنبلاط وكميل شمعون، الشيوعي والكتائب. اختفى أبو طارق خلال الاجتياح الإسرائيلي فلم يشهد قيام هذه الخلطة السحرية التي انتظرت عهد الوصاية لتخرج إلى النور.

ظلت الخلطة هذه على حيويتها حتى بعد اغتيال رفيق الحريري، ولم ترتسم حدود الصراع الداخلي بوضوح إلا مع ثورة 17 تشرين 2019 التي أعادت خلط الأوراق والقوى وأصرّت على أمرين، الأول تقليص دور العوامل الخارجية في عملية الصراع الداخلي والتركيز على معالجة عاهات النظام السياسي وعلى رأسها رسم خطوط تماس واضحة بين دعاة بناء الدولة ومعرقلي بنائها، والثاني تحريم الصراع العسكري بين المتخاصمين.

قبل هذا التاريخ لم يكن هذان الأمران واضحين لا في سنوات الوصاية ولا في تلك التي سبقته ولا التي تلت خروج الجيش السوري من لبنان. تغليب العوامل الخارجية على الداخلية استمر عامل تفجير منذ أحداث 1958 حتى حرب غزة مروراً بالحرب الأهلية اللبنانية، وصار على المحلل أن يبدأ من بكين وواشنطن ليعرف ما في بيروت. في تلك السنوات استسهل اللبنانيون استخدام السلاح بالأصالة عن أنفسهم وبالنيابة عن سواهم.

حلف بغداد والوحدة المصرية السورية، الحلف الثلاثي والنهج، الحركة الوطنية والجبهة اللبنانية، مقاومة الاحتلال الإسرائيلي ومقاومة الوجود السوري، السلاح الميليشيوي الفلسطيني واللبناني أو سيادة الدولة على حدودها وداخل حدودها. كل هذه العناوين شكلت أسباباً دائمة لانقسامات داخلية تهدد الوحدة الوطنية وتزعزع أركان الدولة. ظل العامل الخارجي طاغياً حتى في الانقسام الآذاري بين 14 و8.

ما من مرة في تاريخ لبنان تمثل تيّار الاحتجاج والاعتراض على النظام وقوى السلطة وسياساتها، بحسب قول الزميل حسان الزين، (جريدة «نداء الوطن» 17 شباط 2024) «بموروث يساري وقومي يقدّم البعد الاجتماعي والاقتصادي و»مشروع بناء الدولة»، ويؤخّر «المعطى» الطائفي والهويّاتي، وبموروث أيديولوجي وسياسي لبناني، أو لبنانوي (متمركز حول جبل لبنان وبيروت)، يقدّم البعد الهويّاتي الطائفي، السياسي، ويؤخّر البعد الاجتماعي- الاقتصادي».

القوى المتحدرة من «الموروثَيْن» دخلت «من كل قلبها» في الحروب الأهلية المتعاقبة، ثم شاركت في الانقسام الآذاري؛ وهي ذاتها كانت جزءاً من السلطة حيناً ومن المعارضة حيناً آخر. ما يجعل تصنيفها في أي من الخانتين صعباً هو غياب مشروع الدولة عن لائحة برامجها وأهدافها. مرض «الموروثَيْن» يتمثل في أولية السلطة على الدولة. من تكن السلطة عنده هي الأولوية يرتكب الأخطاء والخطايا ولا يردعه رادع عن أن يكون مدافعاً عنها تارة ومعارضاً لها تارة أخرى.

تصنيف القوى تصنيفاً سليماً ينبغي أن يعتمد معيارين اثنين، موقفها من الدولة لا من السلطة، وقيامها بعملية نقد ذاتي لسلوكها في المراحل السابقة من عمر الوطن. القوى المؤهلة لحمل مشروع الدولة يفترض فيها أن تكون ديمقراطية وتعترف بالآخر وتقبل النقد، وتكون عابرة للطوائف. وإلا فهو صراع ديكة سرعان ما تكذب ماؤه الغطاس.