نغوزي اوكونجو إيويلا

العالم لا يزال بحاجة إلى التجارة

23 آب 2023

المصدر: Foreign Affairs

02 : 00

حاويات للشحن في إسلام أباد | باكستان، أيار 2023

كانت الهندسة الاقتصادية الدولية التي ظهرت بعد العام 1945 ترتكز على فكرة قوية: الترابط الاقتصادي أساسي لتحقيق السلام العالمي والازدهار، مع أنه ليس كافياً. تأسس صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، والهيئة التي سبقت منظمة التجارة العالمية، رداً على ثلاثة عقود من غياب الاستقرار المتواصل، بعدما تدمّر العالم بسبب الحربَين العالميتَين، والكساد العظيم، والتطرّف السياسي. كانت تلك الحقبة تتّسم أيضاً بإزالة العولمة، فانسحبت الدول إلى كتل تجارية معزولة. وسط أنقاض الحرب العالمية الثانية، سعت الحكومات إلى بناء نظام جديد يسمح بتبديد تلك الفوضى والانقسامات نهائياً عبر ربط البلدان ببعضها في إطار شبكة كثيفة من الروابط الاقتصادية.


في معظم فترات آخر 75 سنة، اعترف صانعو السياسة من جميع أنحاء العالم بقوة الترابط الاقتصادي. حطّمت البلدان الحواجز التجارية وفتحت اقتصاداتها على بعضها. كان سجلها مبهراً. تزامن التكامل الاقتصادي المتزايد مع توسّع الازدهار العالمي، وانحسار الفقر بدرجة غير مسبوقة، وبدء فترة طويلة وغير مألوفة من السلام بين القوى العظمى. منذ العام 1990، تراجعت نسبة من يعيشون في فقر مدقع حول العالم بثلاثة أرباع. كان هذا التحوّل الجذري في ظروف البشر ينجم في الأساس عن توسّع التجارة الدولية بعشرين مرة، فزادت المداخيل الفردية بمعدل 27 نقطة في آخر ستة عقود.

لكن تتعرض هذه الرؤية الاقتصادية للهجوم اليوم، وأصبحت إنجازاتها بخطر. أنتجت سلسلة من الصدمات على مرّ 15 سنة (الأزمة المالية العالمية أولاً، ثم جائحة «كوفيد-19»، وأخيراً الحرب في أوكرانيا) خطاباً بديلاً حول العولمة. وفق هذا المنطق الجديد، لا تزيد العولمة قوة البلدان الاقتصادية بل تُعرّضها لمخاطر مفرطة. نتيجةً لذلك، لم يعد الترابط الاقتصادي ميزة بحد ذاته بل جزءاً من الشوائب. تعتبر هذه العقلية الجديدة أن البلدان لا تحتاج إلى الترابط بل الاستقلالية، ما يعني أن ينحصر التكامل في أفضل الأحوال ضمن دائرة صغيرة من البلدان الصديقة.

لكن سيكون تفكيك العولمة الاقتصادية والهياكل التي تدعمها نهجاً خاطئاً لأن البلدان والناس يتكلون على التجارة في زمن «الأزمات المتعددة» اليوم أكثر من أي وقت مضى، رغم شيوع الخطابات التي تشير إلى وضع معاكس. في غضون ذلك، يبقى التعاون الدولي، بما في ذلك التبادلات التجارية، ضرورياً لتجاوز تحديات عالمية مثل التغير المناخي، واللامساواة، والأوبئة. لم تنتهِ حقبة العولمة إذاً، ويُفترض ألا يدعو أحد إلى انتهائها. لكنها تحتاج إلى التحسين وإعادة الابتكار كي تتماشى مع العصر المقبل.

نحو سدّ الفجوة

لطالما كانت التجارة قوة فاعلة لتقليص الفقر. هي تسمح للدول التي تشمل أسواقاً صغيرة أو فقيرة بالاستفادة من الطلب الخارجي ونقل العالم إلى أعمال أكثر إنتاجية في مجالات التصنيع والخدمات والزراعة.

لكن يحتاج العالم اليوم إلى نوع مختلف ومبتكر من التجارة، لأن التقدم لم يكن مشتركاً بين جميع الناس والبلدان خلال العقود الأخيرة. كانت النزعات العامة مبهرة، لكن حملت التفاصيل جانباً قاتماً.

رغم تراجع مظاهر اللامساواة الاقتصادية بين الدول ووسط سكان العالم ككل، زادت اللامساواة داخل عدد كبير من الاقتصادات المتقدمة. كانت التجارة جزءاً من عوامل مؤثرة عدة، بما في ذلك التغيرات التكنولوجية التي فضّلت العمال الماهرين واستبدلت وظائف صناعية كثيرة بالآلات. تأثرت تلك التغيرات أيضاً بالضرائب، واليد العاملة، وسياسات مكافحة الاحتكار، لذا زادت اللامساواة في بلدان معيّنة أكثر من غيرها. وعندما أجّجت الأزمة المالية ومرحلة التعافي البطيئة في سوق العمل مظاهر التطرف الشعبوي، وقع المهاجرون والتجارة ضحية الظروف المستجدة. تشدّد الاضطرابات السياسية في السنوات الأخيرة على أهمية حماية حياة الناس ومعيشتهم من تداعيات التبدلات التجارية والتكنولوجية. من خلال طرح سياسات اجتماعية ناشطة وأخرى خاصة بسوق العمل، تستطيع الحكومات أن تضمن تقاسم مكاسب التجارة والتكنولوجيا على نطاق أوسع مقابل تخفيف آثارهما التخريبية.

يمكن إشراك المزيد من الناس والأماكن التي لا تزال على هامش الإنتاج العالمي وشبكات التجارة. بدأت هذه المقاربة تتحقّق منذ الآن. تعمد الشركات المتعدّدة الجنسيات إلى تنويع قواعد مورديها سعياً لتخفيض التكاليف وتحسين طريقة إدارة المخاطر. بدأت بنغلادش، وكمبوديا، والمغرب، وفيتنام، توسّع مشاركاتها في سلاسل القيمة الإقليمية والعالمية. من باربادوس إلى بالي وأوهايو، تؤمّن وظائف الخدمات عن بُعد الفرص وتبث حياةً جديدة في المجتمعات المتعثرة.

على صعيد آخر، يمكن حصد منافع إضافية عبر تجديد مفهوم العولمة كي يشمل أماكن جديدة ويُشرِك عدداً متزايداً من الشركات الصغيرة والمملوكة من النساء. تسمح هذه المقاربة بتعزيز النمو وتقليص الفقر في أجزاء من أفريقيا، وآسيا، وأميركا اللاتينية، التي تشمل بيئات مهنية واقتصادية مناسبة لكنها تفتقر إلى روابط فاعلة مع أكثر القطاعات حيوية في الاقتصاد العالمي. ستُمهّد هذه المبادرات لضمّ أجزاء إضافية من المجتمعات التي تسجّل معدلات أعلى من الفقر والبطالة، وستزيد عمق سلاسل الإمدادات وأمنها ومرونتها.

تتطلب هذه الموجة المقبلة من النمو القائم على التجارة نظاماً تجارياً قوياً ومنفتحاً ومتعدد الأطراف. لكن ستبدو النسخة المتجددة من العولمة مختلفة عن حقبة الصناعة التي ارتكزت على التصدير وغيّرت معالم شرق آسيا. بما أن التقدّم الحاصل في مجال الأتمتة يجعل التصنيع محرّكاً أضعف مما كان عليه لخلق فرص العمل، يُفترض أن يتوسّع دور الخدمات إلى جانب التصنيع والإنتاج الزراعي. زادت أهمية قطاع الخدمات كمحرّك للنمو والعمليات التجارية، فتوسّع بوتيرة أسرع من التجارة. ينطبق ذلك تحديداً على الخدمات الرقمية، بدءاً من الألعاب عبر خدمات البث وصولاً إلى التواصل عبر مؤتمرات الفيديو.

لدعم عملية تجديد العولمة، يحتاج نظام التجارة الدولية إلى التعديل عبر تحديد قواعد مشتركة لإدارة التجارة الرقمية وتكثيف التعاون في تجارة الخدمات. تؤدي الثغرات في القواعد التجارية القائمة (أو غياب أي قواعد عالمية مشتركة) إلى انتشار الشكوك وزيادة التكاليف على الشركات الأصغر حجماً. بدأ أعضاء منظمة التجارة العالمية يتخذون خطوات صائبة. في العام 2021، أبرمت مجموعة من الدول الأعضاء، التي تشكّل أكثر من 90% من التجارة العالمية في قطاع الخدمات، اتفاقاً لتقليص الحواجز التنظيمية التي تعيق تجارة الخدمات، ويتفاوض حوالى 90 عضواً اليوم على مجموعة أساسية من القواعد العالمية الخاصة بالتجارة الرقمية، بما في ذلك الصين، والولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي. ستكون المبادرات الإقليمية التي تهدف إلى تبديد الحواجز التجارية وإنشاء بنية تحتية مشتركة، على غرار منطقة التجارة الحرّة في القارة الأفريقية، مفيدة أيضاً.

أخيراً، سيكون الحفاظ على السلام والأمان بالغ الأهمية في هذه الحقبة. زاد التشكيك بالفكرة القائلة إن التجارة تضمن إرساء السلام بسبب النزعة المتزايدة إلى استعمال العلاقات التجارية والسياسات كسلاح بحد ذاته. من المبرر أن تشعر البلدان بالقلق من أن يزيد اتّكالها على خصوم محتملين للحصول على السلع الأساسية. لكن أثبتت التجارب أن حصر العمليات التجارية بعدد قليل من الشركاء يترافق مع تكاليف معينة على مستوى الفرص التي يمكن الاستفادة منها، ما يعني ارتفاع الأسعار، وتراجع خيارات التصدير، وتوزيع الموارد بطريقة أقل إنتاجية، وظهور أنواع جديدة من نقاط الضعف في الإمدادات.

في غضون ذلك، تُصَعّب الأسواق العميقة والمتنوّعة استعمال التجارة الدولية كسلاح بحد ذاته من خلال تخفيف اتّكال الدول على مصدر واحد للإمدادات. عندما أوقفت الحرب في أوكرانيا معظم واردات القمح الإثيوبية من ذلك البلد، تمكنت إثيوبيا من سدّ هذه الفجوة المستجدة بفضل واردات من الأرجنتين والولايات المتحدة. في الوقت نفسه، عوّضت أوروبا عن خسارة الغاز الروسي عبر خطوط الأنابيب من خلال استيراد الغاز الطبيعي المسال من مصادر أخرى. في الاقتصاد العالمي الذي يتجه إلى تجديد مظاهر العولمة، يعني تنويع قاعدة الإنتاج كي تشمل جميع أنواع السلع تراجع نقاط الاختناق المحتملة. يتوقف تجديد العولمة إذاً على اقتصاد مفتوح ومستقر يقوم على نظام تجاري قوي ومتعدّد الأطراف.

قـــــوة مـــــن أجـــــل الـــــســـــلام

لن تكون التجارة الدولية الحل السحري المنتظر لمعالجة جميع المشاكل الأمنية ولا نقطة ضعف في الهندسة الأمنية الراهنة. سيكون التخلي عن جميع منافع التجارة الدولية نهجاً متهوّراً. تتعدّد المشاكل في النظام التجاري الراهن، لكنّ السيناريو المضاد له يبقى أسوأ منه بكثير: يصعب أن نتخيّل تحسّن الأمن الدولي إذا كانت أبرز القوى لا تملك أي تأثير اقتصادي على استقرار الدول الأخرى وازدهارها، وإذا لم تنشأ أي مؤسسات مشتركة تسمح لها بالتواصل طوال الوقت. تفيد التجارة بين الولايات المتحدة والصين الناس والشركات في البلدَين معاً وتزيد الترابط بين القوى العظمى عبر العلاقات الثنائية أو المنتديات الدولية، فتُحفّز الجميع على التعاون حين تسنح الفرصة وتُشجّعهم على تجنّب الصراعات.

المنافسة الاستراتيجية هي جزء من وقائع العالم المعاصر. لكن سيصبح هذا العالم غير صالح للعيش من دون تعاون استراتيجي. جدّد الاجتماع الوزاري في منظمة التجارة العالمية في الصيف الماضي الآمال بتعايش هذين العاملَين معاً. حصلت الاتفاقيات التي أقرّها ذلك الاجتماع على دعم جميع أعضاء منظمة التجارة العالمية. تجاوزت تلك الاتفاقيات الخلافات السياسية والجيوسياسية، واقتنع جميع الأطراف بضرورة تقوية نظام التجارة العالمي لتحقيق المصلحة الوطنية.

خلال معظم الفترات التي تلت تبنّي التعاون التجاري المتعدد الأطراف للمرة الأولى في العالم، سمح النظام التجاري بزيادة الازدهار العالمي، ولو أنه لا يزال يفتقر إلى المساواة. هو حقّق هدفه الأصلي الذي يقضي بمساعدة الحكومات على إبقاء الأسواق مفتوحة في زمن الاضطرابات. خلال الصدمات الكبرى، بدءاً من الأزمة المالية العالمية وصولاً إلى جائحة كورونا، لم يكرّر العالم دوّامة الكساد والسياسات الحمائية التي لجأ إليها خلال الثلاثينات، بل سمح بتحويل العرض والطلب العابرَين للحدود إلى محرك للتعافي.

اليوم، أصبح النظام التجاري المتعدّد الأطراف جزءاً من حلول التحديات العالمية الكبرى، بدءاً من التغير المناخي وصولاً إلى الصراعات والتحضيرات لمجابهة الأوبئة. وباتت الحاجة إلى إصلاح منظمة التجارة العالمية بطريقة تناسب تطوّرات القرن الواحد والعشرين مُلحّة اليوم أكثر من أي وقت مضى، ولا بدّ من تحديد القواعد التي تضمن استقرار النظام التجاري العالمي وانفتاحه. لقد علّمتنا التجارب في آخر 15 سنة أن الأزمات غير المتوقعة حتمية وأن العالم لن يتمكّن من مواجهتها من دون قوة التجارة الضامنة للاستقرار.


MISS 3