البروفسور أنطونيوس أبو كسم

اللامركزية الإدارية وبناء الدولة وليس الدويلات

26 آب 2023

02 : 00

إنّ وثيقة الوفاق الوطني نصّت على اعتماد اللامركزية الإدارية الموسّعة على مستوى الوحدات الإدارية الصغرى (القضاء وما دون) وذلك لتمكين الجماعات المحلية من إدارة شؤونها الذاتية عن طريق مجالس منتخبة محلياً. إضافة إلى اللامركزية الإدارية، لقد نصّ الطائف على مجموعة من الإصلاحات التكوينية والعضويّة في النظام اللبناني. وعلى الرغم من إدخال عدد من الإصلاحات كنصوص دستورية ملزمة التطبيق، إلّا أنّ أهل الحكم وتحت عناوين عدّة أجهضوا تطبيق هذه الإصلاحات، كشعارات الوحدة الوطنيّة، الميثاقيّة والشراكة الوطنيّة، المصالحة الوطنيّة، شعب واحد في بلدين ووحدة المسار، مقاومة العدوّ الإسرائيلي والثلاثية الذهبيّة. إنّ التطبيق الكيفي والانتقائي لاتفاق الطائف، يحتّم وضع خطّة لتطبيق الإصلاحات بحسن نيّة ووفقاً للدستور. إنّ تطبيق اللامركزية الإداريّة الموسّعة مطلب محقّ، إلّا أنّ شروط تطبيقه غير متوافرة ونتائج تطبيقه السياسية قد تكون مناقضة لمبادئ الدستور. علماً، أنّ هناك أولويّات أكثر إلحاحاً يقتضي تطبيقها لاستعادة بناء الدولة ما يجعل التوقيت ملتبساً. 



1 - اللامركزية الإدارية والمفاهيم المغلوطة


إنّ اللامركزية الإدارية هي نوع من التنظيم الإداري للدولة يقوم على نقل صلاحيات إدارية لبعض المرافق من الدولة المركزية إلى وحدات محلية منتخبة مباشرة من الشعب تتمتّع بالاستقلالين الإداري والمالي. تمّ تطبيق اللامركزية الإدارية في لبنان على المستوى البلدي فقط. إنّ اللامركزية الإدارية «الموسّعة» ليست مُصطلحاً علمياً بل هي مُصطلح سياسي، ويُقصد بالموسّعة الوظائف والصلاحيات، وليس الدوائر الجغرافية، لامركزية وظيفيّة قطاعية على نطاق جغرافي صغير. كما وأنّ اللامركزية «الماليّة» هي شرط أساسي للّامركزية الإدارية وركنٌ لها، وليست فئة لامركزية أخرى، فاللامركزية تقوم على نظامٍ لامركزيّ ماليّ يمنح الإيرادات المُناسبة للهيئات المحلية لتستطيع ممارسة صلاحياتها. إنّ مسألة إضافة الصفة المالية للمركزية الإدارية هي محض سياسية، فبغياب العائدات الماليّة تصبح اللامركزية الإدارية من دون معنى، حيث لا تستطيع الدوائر المحليّة من دون الاستقلال المالي أن تؤدّي وظائفها بفعالية، وإلّا تتحوّل إلى عبءٍ على الحكومة المركزية في الموارد.


2 - الشروط المستحيلة لتطبيق اللامركزية الإدارية



لا معنى للامركزية الإدارية «الموسّعة» بغياب الدولة المركزية. إنّ ضعف الدولة المركزيّة الحاليّة المعطّلة، يجعل تطبيق نظام اللامركزية الإدارية مستحيلاً. فتطبيقها يشترط سلطة مركزية قوية تقوم بوظائفها الأساسية كاحتكار القوة المنظّمة وحفظ سيادة القانون والمساواة بين المواطنين على كامل أراضيها، ما يحتّم إصلاح الإدارة العامة المركزية إصلاحاً حقيقياً. كذلك تشترط اللامركزية اعتماد خطة إنمائية موحّدة شاملة للبلاد بما يحقّق الإنماء المتوازن، وهذا صعب المنال بسبب الفروقات ما بين المناطق وسياسات التمييز الإنمائية. ولا مجال لتطبيق اللامركزية الإدارية من دون إرادة سياسية جامعة، حيث لا يمكن فرض نظام إداريّ عبر أكثرية هجينة ظرفيّة، ما يهدّد تطبيقه. فقياساً على مناقشات اقتراح قانون اللامركزية السابق، أيّ مشروع سيقابل بمعارضة وجود مصالح محلية متمايزة عن المصالح الوطنية. هناك فريق أساسيّ لا يزال يرفض فكرة تمتّع الوحدات اللامركزية المنتخبة بالاستقلالين الإداري والمالي، فضلاً عن رفض شريحة كبرى لفكرة إنشاء قوات أمن داخلي مستقلّة على مستوى السلطات المحليّة. إنّ مشروع اللامركزية يحتّم أوّلاً إعادة بناء الدولة وتجهيز الإدارة المركزية وتحديثها وتفعيل دورها على مستوى الوحدات الإقليميّة وتفعيل أجهزة الرقابة. الإصلاح الإداري يجب أن يترافق مع ورشة تشريعيّة تتعلّق بتوسيع اللاحصرية الإدارية مقابل توسيع صلاحيات البلديات وتحريرها من الرقابة المسبقة وتقليص سلطة الوصاية. وتبقى الإشكالية الكبرى، هي مسألة التمويل وتوزيع الأموال على المستوى المحلي ومعيار الجباية، إذ إنّ اللامركزية تتناقض مع مقولة فئة تدفع الضرائب وفئة أخرى تستفيد على حسابها. فهل يقبل نظام المحاصصة تطوّر الوحدات وفقاً لحجم ضرائبها المجباة؟ إنّ فكرة الصندوق اللامركزي قد يؤمّن الإنماء المتوازن ولكنّه يشكّل ضربة لمبدأ المساواة حيث يشجّع استفادة فئة غير منتجة على حساب نجاح فئة منتجة.


3 - شرعيّة اللامركزية الإدارية الموسّعة وهواجس الفيدراليّة


على الرغم من أنّ الفيدراليّة نظام سياسي وأنّ اللامركزية نظام إداريّ، تمّ تبنّي اللامركزية الإدارية في الطائف كذريعة لمنع تقسيم لبنان. فكانت نتاج تسوية بين جبهة تريد الفيدراليّة، وجبهة تعارض تقسيم لبنان، فوُجدت هذه الصيغة التي ترضي كافة الأطراف، كأحد أوجه الخروج من الأزمة. وإن كان يُخطَّطُ للامركزية الإدارية كخطوة باتجاه الفيدراليّة، إلّا أنّه في النظامين، إنّ مرافق السياسة الخارجية والدفاع الوطني والمالية تتبع حصرياً للحكومة المركزيّة. إنّ أي مشروع للّامركزية الإدارية يجب أن يأتي متوافقاً مع مبادئ الدستور اللبناني ومقدّمته، فيجب أن يؤمّن الإنماء المتوازن وألّا يشكّل تجزئة أو فرزاً للشعب على أساس أي انتماء كان وألّا يؤسس لأيّ سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك، فالدستور كرّس لبنان دولة مستقلة ذات وحدة لا تتجزّأ. هناك خشية من أن تشكّل اللامركزية خطراً على الهوية الوطنية عبر تعزيز الهويات الفئوية خلال فرض بعض الأطراف ثقافتها على مناطق نفوذها؛ قد تؤدّي إلى مخاطر هيمنات محليّة في ظلّ الأوضاع الأمنيّة والسياسية الراهنة وتالياً إلى زعزعة ركائز لبنان الكبير. خصوصاً، وأنّ المناقشات النيابية لمشروع القانون أظهرت وكأنّ كل طائفة تعمل على خلق وحدة مستقلّة لنفسها. وقياساً على تجربة الانتخابات البلدية التي لا تحصل على أسس إنمائية بل على أسس حزبية وطائفية وسياسية، ستجري إذاً انتخابات مجالس الأقضية على هذه الأسس نفسها. يستحيل تطبيق نظام اللامركزية حالياً وسط خللٍ ديمغرافي ناتج عن العدد الهائل للمهجرين والمهاجرين الذي يتعدّى نصف عدد المواطنين الأصليين. إنّ هذا التمايز يقود إلى بروز نزعات انفصالية لدى بعض الفئات، ويكون الكلام على اللامركزية الإدارية كشكل من الاستقلال الإداري، بوابة لنقاشٍ آخر، كمشروع فيدراليّة إداريّة أمنيّة.


4 - اللامركزية: أيّ أولويّة وطنيّة؟


أمام مشهد تفكّك الدولة اللبنانية وانهيارها، تقتضي الاستعاضة عن الحديث على مشروع اللامركزية الإدارية، بالعمل على إصلاح الإدارة المركزية والمرافق العامة، وتحرير قيود البلديات كوحدات لامركزية، كخطوة متقدّمة خارج المزايدات ومحاولات دغدغة مشاعر الجماعات الطائفيّة لتشريع بؤرها المقفلة. إنّ اللامركزية الإدارية «الموسّعة» لا تشكّل الحلّ لعدم استقرار النظام السياسي في لبنان، حيث ينحصر تطبيقها بالشقّ الإداريّ الإنمائيّ فقط. على كلّ حال، وباستمرار الوجود المضطرد للمهجرين السوريين، هل بالإمكان إجراء دراسة محدّثة للأقضية لمعرفة مستوى الدخل، ومستوى الإنماء، ومستوى القدرة على الإنتاج، ومستوى الحاجات، وقدرة الإدارة اللاحصرية على تلبية حاجات المواطنين؟ هل إنّ الخلاف السياسي المحتدم في لبنان والوضع الاقتصادي المعدوم وحالة شبه إفلاس الدولة ماليّاً، عوامل مسهّلة لإقرار مشروع اللامركزية وتطبيقه؟ هل تشكّل اللامركزية أولويّة إصلاحية أو بنيويّة وسط حالة انهيار الدولة؟ بدلاً من الهروب نحو طروحات سياسية جدليّة لتقطيع الوقت والإغواء عبر تشريع الدويلات الميليشياوية إدارياً، إنّ ما يجب التوافق عليه ما بين اللبنانيين، هو إحياء عقد اجتماعي لبناني رافض للتقسيم والدويلات والتوطين يعيد هيبة الدولة، والشروع بإقرار قانون استقلالية السلطة القضائية لعلّ العدالة تعود يوماً ويحاكم قتلة الوطن وسارقو موارده ومستقبل أجياله. إنّ البلاد لم تعد تحتمل مغامرات غير محسوبة النتائج قد تؤدّي إلى التقسيم بالدمّ والضمّ والقضم.


(*) محامٍ دوليّ وأستاذ جامعي


MISS 3