آدم توز

الهيدروجين... هو المستقبل أم مجرّد سراب؟

29 آب 2023

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

محلل كهربائي في منشأة إنتاج الهيدروجين المتجدد لشركة إير ليكيد في أوبرهاوزن | ألمانيا، 2 أيار ٢٠٢٣

بعد التزام أغلبية واسعة من حكومات العالم بإزالة الكربون من اقتصاداتها خلال جيلَين، بدأت رحلتنا نحو المجهول. تحوّل الجدل السابق حول تسعير الكربون وتجارة الانبعاثات إلى سباقٍ في مجال السياسة الصناعية. من المتوقع أن تتصاعد مواقف الرفض والإنكار في هذه المرحلة. لكن ستتحقق إنجازات وانتصارات غير متوقعة أيضاً. تراجعت كلفة طاقة الرياح والطاقة الشمسية بدرجة كبيرة في آخر عشرين سنة، وتحولت السيارات الكهربائية العاملة بالبطاريات من مجرّد خيال إلى واقع ملموس.


لكن إلى جانب المعارضة المباشرة والإنجازات الواضحة، سنضطر أيضاً للتعامل مع مواقف أكثر غموضاً ترتكز على الأمنيات المبهمة والأفكار التحفيزية. في خضم بحثنا عن الحلول التقنية لمعضلة إزالة الكربون، يجب أن نحذر من سراب المرحلة الانتقالية في مجال الطاقة.


نحن نواجه راهناً معضلة شائكة أيضاً بسبب الهيدروجين. هل يُعتبر هذا العنصر جزءاً أساسياً من مستقبل الطاقة في العالم أم أنه مجرّد سراب خطير؟ قد تتوقف استثمارات بقيمة تريليونات الدولارات على هذا السؤال في نهاية المطاف.


في آخر ست سنوات، أجمع تحالف ضخم من الحكومات الوطنية والقطاعات الصناعية على المنافع الواعدة التي ينذر بها الاقتصاد المبني على الهيدروجين.

من الناحية التكنولوجية، قد يحمل الهيدروجين مجموعة من الاحتمالات الإيجابية في المستقبل البعيد، لكنه يضطلع بدور فوري من الناحية السياسية. قد يكون الأداة التي تسمح لقطاعات الوقود الأحفوري الراهنة بإيجاد مكانة خاصة بها في مستقبل الطاقة الجديدة. لا يُعتبر وجود كبار شركات النفط والطاقة في "مجلس الهيدروجين" مجرّد صدفة مثلاً.


لم تتّضح بعد كمية الهيدروجين التي يمكن إنتاجها في أوروبا. لكن يحبذ الخبراء الاستراتيجيون الأوروبيون مشاريع الهيدروجين لأنها تطرح رؤية جديدة حول التعاون الأوروبي الأفريقي. نظراً إلى طبيعة النزعات الديمغرافية السائدة وضغوط الهجرة المتواصلة، أصبحت أوروبا بأمسّ الحاجة إلى إقناع نفسها بأنها تستطيع الاتكال على استراتيجية أفريقية واعدة. عقدت ألمانيا حديثاً شراكة في مجال الهيدروجين مع ناميبيا. لكن يطرح هذا الوضع أسئلة جديدة.


أولاً، ما هو مصدر المياه الذي يستطيع بلد صحراوي في معظمه تأمينه للتحليل الكهربائي؟ ثانياً، هل ستصدّر ناميبيا الهيدروجين والأمونيا حصراً، أم ستضيف إليهما بعض المنتجات الصناعية التي تشمل مدخلات خضراء؟ ستستفيد ناميبيا حتماً من تطوير قطاع صناعي يرتكز على عناصر كيماوية ثقيلة وصهر الحديد. لكن من وجهة نظر ألمانيا، قد تتعارض هذه الخطة مع الهدف الأصلي الذي يتعلق بتأمين طاقة خضراء مقبولة الكلفة تسمح بالحفاظ على الوظائف الصناعية في أوروبا.


تتعدد الدوافع المحافِظة التي يقوم عليها ائتلاف الهيدروجين إذاً، وقد تكون بريطانيا بعد حقبة "بريكست" أوضح مثال عليها. وصلت المملكة المتحدة في الفترة الأخيرة إلى طريق مسدود. تتطلب القطاعات التي يصعب حصر نطاقها، مثل تدفئة المنازل، استثمارات هائلة في شبكات الكهرباء، لا سيما مضخات الحرارة، علماً أن هذه المجالات تتكل بشدة على الغاز الطبيعي في المملكة المتحدة. تفكر الحكومة البريطانية المحاصرة، التي يرأسها حزب المحافظين وكانت قد أشرفت على ركود المداخيل الحقيقية خلال أكثر من عشر سنوات، باستعمال الهيدروجين على نطاق واسع لتدفئة المنازل كخيار بديل. يعتبر معظم خبراء الطاقة هذه الفكرة مشروعاً غير عملي في قطاع الغاز كونها تؤجّل مشاريع الكهرباء الحتمية على حساب الانبعاثات المنزلية المطوّلة. لكن من الناحية السياسية، تتراجع نسبياً كلفة استبدال الغاز الطبيعي بالهيدروجين في كل أسرة.

نتيجةً لذلك، من المبرر أن يخشى البعض استثمار مليارات الدولارات في مجال الطاقة "الخضراء" على شكل إعانات، وكميات هائلة من الرصيد السياسي، ومدة طويلة من الوقت الثمين، لمجرّد أن تضمن هذه الخطة كبح التغيرات المحتملة وترسيخ الأنماط القائمة من أنظمة الطاقة العاملة بالهيدروكربون. لا تقتصر المسألة على استعمال مزاعم بيئية خاطئة أو مُضلّلة لتبرير هذا النوع من المشاريع. ستكون التداعيات المتوقعة أكثر خطورة بكثير في حال تنفيذ المشاريع فعلاً، إذ من المنتظر أن تشمل تلك الخطط بناء السفن، وتركيب الأنابيب تحت الأرض، واستهلاك كميات هائلة من الكهرباء "الخضراء" التي تبقى نادرة جداً. هذا الوضع يطرح معضلة أخرى.


لمواجهة تحديات العملية الانتقالية الحاصلة في قطاع الطاقة، يجب أن ننحاز إلى مبدأ العمل الجدّي ونتكل على الخبرات المتاحة. يُفترض أن نثق بنتائج منحنى التعلّم. من المنتظر أن تصبح أجهزة التحليل الكهربائي مقبولة الكلفة مثلاً، فتتراجع تكاليف إنتاج الهيدروجين. في مراحل وأماكن معينة، قد تصبح الطاقة الخضراء وافرة أيضاً لدرجة أن يبدو استعمالها في عمليات التحليل الكهربائي منطقياً. وحتى لو لم ينجح عدد كبير من مشاريع الهيدروجين، تستحق هذه المجازفة العناء على الأرجح. قد نتعلم كيفية استخدام تقنيات جديدة في خضم هذه العملية. لمواجهة الشكوك التي ترافق العملية الانتقالية في مجال الطاقة، يجب أن نتقبل فكرة الفشل. وحتى لو كان الهيدروجين من أبرز الأمثلة على مبدأ التنازلات المتبادلة بين الشركات، يُفترض أن نرحّب بتوسّع التحالف الأخضر كي يشمل مصالح قوية في قطاع الوقود الأحفوري.


تتّضح معالم المقايضات الحقيقية والحتمية حين نستعمل موارد نادرة لتحقيق حلم الهيدروجين، سواء كانت حقيقية أو سياسية. أصبحت حدود تحمّل الرأي العام لتكاليف العملية الانتقالية في مجال الطاقة واضحة للجميع، في آسيا وأوروبا وفي الولايات المتحدة أيضاً. يختلف ضخ الأموال على شكل إعانات حكومية تنتج اقتصادات ضخمة وتضمن تراجع التكاليف عن هدر الأموال على مشاريع تتراجع فرص نجاحها. في النهاية، قد تصبح شرعية العملية الانتقالية في قطاع الطاقة على المحك.

عند منح براءات الاختراع، ما من طريقة للتمييز بين الضجة التي تخدم المصالح الشخصية وفرص النجاح الحقيقية. يقضي الخيار الوحيد حتى الآن بإخضاع المزاعم المتضاربة لتدقيق عام وعلمي وتقني. وإذا بدأ تنفيذ المشروع أصلاً وأصبحت الإعانات الحكومية مطروحة على طاولة النقاش منذ الآن، تبرز الحاجة إلى تقييم الكلفة نسبةً إلى المنافع بأثر رجعي.


في الحالة المثلى، يجب أن تكون المقاربة المعتمدة تدريجية ومنطقية، ويجب أن يدرك الجميع في هذا المجال أن اعتبار الهيدروجين مجرّد وهم مستقبلي هو موقف مُضلّل. نحن نعيش أصلاً في عالم قائم على الهيدروجين. لا يستطيع قطاعان أساسيان من الصناعة المعاصرة الصمود من دونه. تتكل مراحل تكرير النفط على الهيدروجين، وتحتاج إليه عمليات إنتاج الأسمدة عبر عملية "هابر بوش" التي نلجأ إليها لإنتاج نصف المواد الغذائية التي نستهلكها يومياً. ينتج هذان القطاعان معظم الكمية المطلوبة من الهيدروجين الذي نستعمله راهناً.


قد لا نحتاج إلى 600 مليون، أو 500 مليون، أو حتى 300 مليون من الهيدروجين الأخضر والأزرق بحلول العام 2050. لكننا نستعمل في الوقت الراهن حوالى 100 مليون، ويُعتبر مليون واحد من هذا المجموع نظيفاً. يُفترض أن تتمحور تجارب الهيدروجين حول هذه الكمية النظيفة في الأماكن التي تشمل أصلاً البنية التحية المناسبة لهذه المشاريع. إنه عمل شاق لأن نقل الهيدروجين مكلف، ولا يستخدم جزء كبير من استعمالات الهيدروجين الراهنة، لا سيما في أوروبا، الطاقة الخضراء قليلة الكلفة. لكن لا تبدو ظروف التجارب في إطار اقتصاد الهيدروجين قابلة للنجاح في مكانَين محدّدَين.


المكان الأول هو الصين، لا سيما شمال البلد ومنغوليا الداخلية، حيث تقوم الصين بأكبر جزء من عمليات إنتاج الأسمدة والإسمنت والفولاذ في الوقت الراهن. تُعتبر الصين رائدة عالمياً في مجال تركيب الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، وقد بدأت تتفوق في خطوط نقل الجهد العالي أيضاً.


على عكس اليابان وكوريا الجنوبية، لم تثبت الصين حماستها تجاه مشاريع الهيدروجين، بل إنها تراهن عالمياً على إنشاء خط مباشر لشبكات الكهرباء عبر جيل الطاقة المتجددة والبطاريات. لكن سبق وأصبحت الصين أكبر مُنتِجة لمعدات التحليل الكهربائي وأقلّها كلفة. في العام 2022، أطلقت الصين استراتيجية متكافئة بدرجة معينة لتنفيذ مشاريع الهيدروجين. وبالتعاون مع الأمم المتحدة، أطلق البلد أيضاً تجربة لإنتاج الأسمدة الخضراء، وليس مستبعداً أن يقرر إنشاء نظام طاقة واسع النطاق يقوم على الهيدروجين.


الولايات المتحدة هي اللاعبة الأساسية الثانية. بعد سنوات من التأجيل، أصبحت واشنطن متأخرة جداً في مجال إنتاج البطاريات الكهروضوئية والرياح البحرية. لكنها تتفوق في قطاع الهيدروجين على أي موقع آخر في الغرب، لا سيما في ولايتَي تكساس ولويزيانا المتجاورتَين والمُطلّتَين على خليج المكسيك. تشمل الولايات المتحدة مُجمّعاً ضخماً لإنتاج البتروكيماويات، وتعتبر الاقتصاد الغربي الوحيد القادر على منافسة الهند والصين في قطاع إنتاج الأسمدة. كذلك، تشمل ولاية تكساس خطوط أنابيب للهيدروجين الصلب على طول أكثر من 2500 كلم، وتتكل شركات مثل "إكسون" على استراتيجية عزل الكربون في مجال الطاقة الخضراء، ومن المتوقع أن تصبح هذه المقاربة التكنولوجيا المفضّلة لإنتاج الهيدروجين الأزرق.


ليست صدفة أن يُركّز أهم تشريع مناخي أميركي، أي قانون خفض التضخم، على تقديم أكثر الإعانات الحكومية سخاءً لإنتاج الهيدروجين، وهي أكبر إعانات خصصتها الولايات المتحدة للطاقة الخضراء على الإطلاق. تبذل جماعات الضغط الداعمة لمشاريع الهيدروجين جهوداً حثيثة، وقد حوّلت تكساس إلى الموقع الأقل كلفة لإنتاج الهيدروجين في العالم الغربي. قد لا يكون هذا النموذج خياراً يُحتذى به في أماكن أخرى، لكنه قد يشكّل بيئة حاضنة للتكنولوجيا، فيُميّز بين المشاريع القابلة للتنفيذ والمشاريع غير العملية.


تتعدد الأسباب التي تجعلنا نشكك بدوافع هذه الأطراف كلها خلال المرحلة الانتقالية في قطاع الطاقة. لذا سيكون التمييز بين الابتكارات الحقيقية والنزعات المحافِظة التي تهدف إلى تحقيق مصالح شخصية تحدياً كبيراً في الحقبة الجديدة، وسيضطر المعنيون لاختيار الفائزين في مرحلة معيّنة. يجب أن نطوّر ثقافة الوعي في هذا القطاع. لكن تكثر الأسباب التي تجعلنا نتوقع أن تنبثق مجموعة من أهم خصائص الثقافة الجديدة من الأفكار القديمة. الابتكار بحد ذاته مفهوم سحري لكن نادراً ما يظهر من العدم، فهو ينبثق من الأوساط التقنية الاحترافية التي تهتم بإحداث تغيير حقيقي. قد يكون مُجمّع البتروكيماويات في خليج المكسيك مكاناً غير متوقّع لإنتاج مستقبل أخضر جديد، لكن من المنطقي أن يحصل الاختبار الذي يثبت فرص نجاح الهيدروجين في عمق اقتصاد الهيدروكربون الراهن.     

MISS 3