قبل الأمن والرغيف، الكهرباء والودائع، قبل السلم والسيادة، الفقر والبطالة، قبل الأزمات الاقتصاديّة والسياسيّة والاجتماعية، قبل همومنا ومشاكلنا اليومية الكبيرة والصغيرة، قبل أي حقوق على أهميتها وأحقيتها، قبل كلّ هذا، هناك في المقلب الآخر من عالمنا، من يشتهي كسرة حياة، من يتمنّى ملامسة خيط نور يُداعب وجهه، من يشتاق إلى حضن عائلة تعيده طفلاً بين ذراعيها، من يتوق إلى لحظة حريّة واحدة، واحدة فقط. هناك من يحسد الحيوانات على عيشها. إنهم المعتقلون اللبنانيون في السجون السورية. أو بالأحرى إنهم المنسيّون من قبل دولتهم منذ عشرات السنين، في سجون أبشع من القبور. لدى نظام أقهر من الجحيم. نحو 622 أسيراً لبنانيّاً لا أحد يعلم من منهم على قيد الحياة (إذا اعتقدنا أنّها كذلك) أو من نجا بموته من الهلاك اليومي.
الدولة لا يُعوّل عليها، فهي بحدّ ذاتها مُعتقلة ورهينة. حكوماتها أعجز من حلّ وعقد الأربطة على أنواعها. عائلات ضاع عمرها وهي تبحث عن فلذات أكبادها. أمّهات فضّلن الرحيل، لعلّهن يغمرن أولادهنّ يوم اللقاء الأبدي، بدل انتظار أرضيّ طويل مقطوع الأمل. غير أن المستحيل لا يعني الاستسلام، خصوصاً بعد التفاؤل الذي لاح في الأفق الأممي مع إنشاء الجمعية العامة للأمم المتحدة في 29 حزيران الفائت «المؤسسة المستقلّة حول المفقودين في سوريا». ورغم تمنّع حكومة تصريف الأعمال عبر الخارجية اللبنانية عن التصويت لاعتبارات وحجج واهية، وبتنظيم جهاز العلاقات الخارجية في حزب «القوّات اللبنانية»، أطلق نواب كتل «الجمهورية القوية»، «الكتائب»، «اللقاء الديموقراطي»، «تجدّد»، ونواب مستقلون بالتعاون مع جمعية المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية، أمس، عريضة تدعو إلى ضمّ ملف اللبنانيين المعتقلين في السجون السورية إلى نطاق اختصاص المؤسسة المستقلة التابعة للأمم المتحدة. وتخلّل المؤتمر عرض للوثيقة المقترحة وكلمات تأييد لعدد من النواب وعلي أبو دهن عن جمعية المعتقلين.
كما شارك في المؤتمر، إضافة إلى النواب وأهالي المفقودين، ممثلون عن البعثات الأممية التابعة للأمم المتحدة وسفارات دول عربية وأجنبية، وعدد من المعتقلين السابقين والجمعيات الحقوقية والإنسانية، بينها «مكتبة أمم» ونقابة محامي بيروت وعدد من الجمعيات اللبنانية والسورية والفلسطينية الداعمة لمطلب العريضة. العريضة التي وقّعها 46 نائباً، ستقدّم إلى المفوضية السامية لحقوق الإنسان في بيروت.
هذا العدد، يراه بعض القوى السياسية، غيرَ كافٍ ومخزياً في آن. المطلوب هو أن تنال العريضة تواقيع النوّاب أجمعين، فهذا الملف فوق السياسة والمحاور والصراعات المحليّة والخارجية. عمل الخير ليس بحاجة إلى مشورة، وكذلك القضايا الإنسانية لا تنتظر أي دوافع أو حوافز لحثّ النوّاب على التضامن الفعلي.
أمّا المرارة حسب أحد المعتقلين المحرّرين من السجون السورية والعاملين على إطلاق العريضة، فهي عدم تجاوب نوّاب تكتلّ «لبنان القوي»، وتهرّب أحد النواب المسيحيين المعارضين البارزين من التوقيع على الوثيقة التي سترفع إلى الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش. ورغم تأييد معظم النواب المستقلّين، أشار الأسير السابق إلى أن النائبة سينتيا زرازير لم تبدِ أي اهتمام تجاه تحرّكنا، «كأن الموضوع لا يعنيها». هذا وكشف لـ»نداء الوطن» أن هناك قانوناً مُهمّاً يتمّ العمل عليه في أروقة الكونغرس الأميركي يتعلّق بـ»نبش قبور الأسد» وقد يُعلن عنه قريباً.
في مؤتمر المعتقلين اللبنانيين في السّجون السوريّة، تحدّث النوّاب: جورج عقيص (الجمهورية القوية)، نديم الجميّل (الكتائب)، أشرف ريفي (تجدّد)، بولا يعقوبيان، مارك ضو، الوزير السابق ورئيس جهاز العلاقات الخارجية في حزب «القوّات اللبنانيّة» ريشار قيومجيان، وأبو دهن. إذ شدّدوا جميعاً على متابعة القضية تجاه الرأي العام والمجتمع الدولي، مندّدين في الوقت ذاته بتخاذل الدولة اللبنانية، ودعوا إلى منح المعتقلين المحرّرين من السجون السورية، الحقوق والتعويضات التي أعطيت للمحرّرين من السجون الإسرائيلية.