برانكو ميلانوفيتش

الفجوة بين الدول الفقيرة والغنية هل تتّسع؟

30 آب 2023

المصدر: Foreign Affairs

02 : 00

من مظاهر الشرخ الواضح بين الفقراء والأغنياء

نعيش اليوم في زمن اللامساواة، أو هذا ما نسمعه على الأقل. توسّعت الفجوة بين الأغنياء وبقية شرائح المجتمع على مرّ السنين في جميع أنحاء العالم، لا سيما في الاقتصادات الغربية الثرية، وتحوّلت إلى هوة كبيرة تنشر المخاوف والأحقاد وتثير الاضطرابات السياسية في كل مكان. هذا الوضع مسؤول عن جميع أنواع المشاكل، بدءاً من ظهور الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب والتصويت على خطة «بريكست» في المملكة المتحدة، وصولاً إلى حركة «السترات الصفراء» في فرنسا واحتجاجات المتقاعدين حديثاً في الصين التي تشهد واحداً من أعلى معدلات اللامساواة في المداخيل. وفق هذا المنطق، سمحت العولمة بإغناء نُخَب معينة لكنها تؤذي مجموعات أخرى كثيرة، وتُخرّب مساحات صناعية سابقة، وتجعل الناس أكثر تأثّراً بالسياسات الشعبوية.

قد تحمل هذه الأفكار جزءاً من الحقيقة عند النظر إلى وضع كل بلد فردي. لكن عند تجاوز ظروف الدول القومية وتقييم الوضع العالمي ككل، يصبح المشهد العام مختلفاً. في هذه الحالة، تبدو قصة اللامساواة في القرن الواحد والعشرين معاكسة: بدأ نطاق المساواة يتوسّع حول العالم مقارنةً بما كان عليه منذ أكثر من مئة سنة.



لن يكون إحراز التقدم لزيادة المساواة العالمية حتمياً. لم تصبح الصين غنية بما يكفي كي تسهم في تقليص مظاهر اللامساواة حول العالم، وقد لا تنمو بلدان كبيرة مثل الهند لدرجة أن تؤثر على الوضع بقدر الصين. ستتوقف عوامل كثيرة على أداء البلدان في أفريقيا. قد تطلق هذه القارة أكبر تراجع مرتقب في مستوى الفقر واللامساواة حول العالم. لكن حتى لو انحسرت اللامساواة العالمية، لا يعني ذلك أن الاضطرابات الاجتماعية والسياسية في البلدان الفردية ستتراجع، بل إن العكس صحيح. نظراً إلى حجم الاختلافات في الأجور العالمية، اعتُبِر الغربيون الفقراء طوال عقود من أصحاب أعلى المداخيل في العالم. لكن لن يستمرّ هذا الوضع لأن المجموعات غير الغربية التي تكسب مداخيل متزايدة ستزيل الغربيين الفقراء والمنتمين إلى الطبقة الوسطى عن عرشهم. هذا التحوّل سيزيد الانقسامات في البلدان الغنية، بين الفئات التي تُعتبر ثرية وفق المعايير العالمية والفئات غير الميسورة.

المحرّك الأفريقي

بسبب التحوّلات الجذرية الأخيرة، لن تتابع الصين المشاركة في تقليص مظاهر اللامساواة العالمية. لكن قد تتمكّن البلدان الأفريقية من تسريع هذا التراجع مستقبلاً. لتحقيق هذه الغاية، يجب أن تسجّل الدول الأفريقية نمواً أسرع من بقية دول العالم، لا سيما الصين والبلدان الغنية في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. سيكون دورها أساسياً في هذا المجال، لا بسبب انتشار الفقر في معظم بلدان القارة فحسب، بل نتيجة انخفاض معدل الولادات تحت مستوى الاستبدال السكاني عالمياً. من المتوقع أن ينمو سكان أفريقيا خلال هذا القرن، أو حتى وصولاً إلى القرن المقبل.

لكن من المستبعد أن تنجح أفريقيا في تكرار النجاح الاقتصادي الذي شهدته آسيا في الفترة الأخيرة. لا تشمل السجلات الأفريقية بعد العام 1950 أسباباً كثيرة للتفاؤل. يُعتبر الحفاظ على معدل نمو 5% لكل فرد طوال خمس سنوات على الأقل هدفاً طموحاً لكنه ممكن. مع ذلك، لم تنجح إلا ستة بلدان أفريقية في بلوغ هذا المعدل في آخر سبعين سنة. في معظم الحالات، شملت هذه الفصول الاستثنائية من النمو بلداناً صغيرة جداً (من حيث العدد السكاني)، وكان نموّها يرتكز على السلع المُعدّة للتصدير (النفط في الغابون وغينيا الاستوائية، والكاكاو في ساحل العاج). حقّقت بوتسوانا وجمهورية كابو فيردي هذا النمو أيضاً، لكنهما بلدان صغيران جداً. كانت إثيوبيا الدولة الوحيدة التي حافظت على معدل نمو مرتفع طوال 13 سنة متواصلة، بين العامين 2005 و2017، رغم اكتظاظها بالسكان (أكثر من مئة مليون نسمة). توقفت تلك النزعة منذ ذلك الحين بسبب اندلاع حرب أهلية جديدة في العام 2020 وتجدّد الصراع مع إريتريا.

هذه الحسابات البسيطة تكشف أن أكثر البلدان الأفريقية كثافة بالسكان (نيجيريا، إثيوبيا، مصر، جمهورية الكونغو الديمقراطية، تنزانيا، جنوب أفريقيا) ستضطر لتجاوز النزعات التاريخية لأداء الدور الذي اضطلعت به الصين في العقود الأخيرة لتقليص اللامساواة العالمية. استبعد عدد كبير من المراقبين أن تشهد آسيا نمواً اقتصادياً هائلاً. على سبيل المثال، توقّع خبير الاقتصاد السويدي الفائز بجائزة نوبل، غونار ميردال، في كتابه Asian Drama: An Inquiry into the Poverty of Nations (دراما آسيوية: تحقيق حول فقر الأمم)، في العام 1968، أن تبقى آسيا فقيرة في المستقبل المنظور، نظراً إلى عددها السكاني المفرط وتراجع تقدّمها التكنولوجي. لكن بعد عشر سنوات فقط على نشر كتاب ميردال، بدأت هذه المنطقة تسجّل معدلات نمو مرتفعة على نحو استثنائي وأصبحت رائدة في بعض مجالات التكنولوجيا.

من المستبعد أن تكون المساعدات من أهم محركات النمو. تكشف مختلف التجارب في آخر ستة عقود أن الدعم الغربي لأفريقيا لا يضمن تطوّر البلدان. تُعتبر المساعدات غير كافية وغير مؤثرة في هذا المجال. لن تكون كافية لأن البلدان الغنية لم تخصص يوماً معظم ناتجها المحلي الإجمالي للمساعدات الخارجية. في الوقت الراهن، تكتفي الولايات المتحدة، أغنى دولة في العالم، بتخصيص 0.18% من ناتجها المحلي الإجمالي لتقديم المساعدات، ويوضع جزء كبير منها في خانة «الحاجات الأمنية» ويُستعمل لشراء معدّات عسكرية أميركية. لكن حتى لو كان مجموع المساعدات أعلى مستوى، لن يكون تأثيره كبيراً. يكشف سجل متلقي المساعدات في أفريقيا أن هذا الدعم لا ينتج نمواً اقتصادياً كبيراً. غالباً ما تتوزع المساعدات بطريقة شائبة أو حتى تتعرض للسرقة أحياناً. هي تترافق مع تداعيات تشبه «لعنة الموارد»، ما يعني أن يبقى أداء البلد سيئاً رغم غناه بسلع قيّمة: يكسب هذا البلد أرباحاً هائلة في البداية لكن من دون متابعة مساره أو تحقيق ازدهار مشترك وأكثر استدامة.

إذا بقيت أفريقيا بهذا الضعف، فلا مفر من أن يدفع الركود المستمرّ بعدد كبير من الناس إلى الهجرة. في النهاية، تبقى مكاسب الهجرة هائلة: يستطيع أي شخص يكسب مدخولاً متوسطاً في تونس، ويقرّر الانتقال إلى فرنسا، ويبدأ بكسب 20% من متوسط الدخل الفرنسي مثلاً، أن يزيد مدخوله بثلاثة أضعاف تقريباً، كما أنه يحسّن فرص الحياة لأولاده. أو يستطيع سكان أفريقيا جنوب الصحراء أن يكسبوا المزيد عبر الانتقال إلى أوروبا: الفرد الذي يكسب متوسط الدخل في أوغندا وينتقل إلى النروج، حيث يحصل على 20% من الدخل النروجي، يستطيع أن يزيد مدخوله بمعدل 18 مرة. من المتوقّع أن يؤدي عجز الاقتصادات الأفريقية عن مواكبة البلدان الثرية (وبالتالي فشلها في تقليص مظاهر اللامساواة العالمية على مستوى المداخيل مستقبلاً) إلى توسيع نطاق الهجرة وتقوية الأحزاب السياسية المعادية للأجانب في البلدان الغنية، لا سيما داخل أوروبا.

لا مفرّ من أن تتنافس القوى العالمية الطاغية على القارة الأفريقية بسبب وفرة الموارد الطبيعية فيها واستمرار الفقر وضعف الحكومات هناك. كان الغرب قد أهمل أفريقيا بعد نهاية الحرب الباردة، لكن جاءت الاستثمارات الصينية الأخيرة في القارة لتنبّه الولايات المتحدة وجهات أخرى حول أهميتها. استفادت الصين من قرارات الوكالة الأميركية للتنمية الدولية بطريقة غير مباشرة عندما حوّلت اهتمامها نحو أفريقيا وقرّرت التركيز على المزيد من مشاريع البنية التحتية التقليدية، بما يشبه ما تفضّله الصين. بدأت البلدان الأفريقية تتعلّم أن المنافسة القائمة بين القوى العظمى قد لا تسيء إليها في نهاية المطاف لأنها تسمح لها بالتلاعب بمختلف الأطراف. لكن قد يتحقّق سيناريو أكثر سلبية، فتنقسم القارة بين حلفاء وأعداء، ثم يبدأ هؤلاء بالتنافس في ما بينهم أو يخوضون الحروب في بعض الحالات. هذه الفوضى قد تجعل السوق الأفريقية المشتركة، التي تكرر نجاح المجموعة الاقتصادية الأوروبية، خياراً مستبعداً. لهذا السبب، تبدو فرص تحقيق نمو أفريقي قادر على كبح مظاهر اللامساواة العالمية خلال السنوات المقبلة ضئيلة.

شـــكـــل الـــعـــالـــم الـــمــــســـتــــقــــبـــلـــي

بغض النظر عن وجهة اللامساواة العالمية، يلوح تغيير كبير في الأفق. ما لم يتباطأ النمو الصيني بدرجة كبيرة، سيستمرّ ارتفاع حصة المواطنين الصينيين من أعلى المداخيل العالمية الموزّعة، ما يعني تراجع حصة الغربيين في تلك الفئة. سيترافق هذا التحوّل مع تغيير بارز مقارنةً بالوضع الذي كان قائماً منذ الثورة الصناعية. يشكّل التراجع التدريجي في فئة المداخيل العالمية وسط الطبقات الدنيا والوسطى في الغرب سبباً جديداً للانقسامات المحلية: يبقى الأغنياء في أي بلد غربي أصحاب ثروات وفق المعايير العالمية، لكن يتراجع الفقراء في ذلك البلد داخل النظام العالمي. لمتابعة انحسار مظاهر اللامساواة العالمية، يجب أن يتحقق نمو اقتصادي قوي في البلدان الأفريقية المكتظة بالسكان، لكن يبقى هذا الهدف مستبعداً. ستستمرّ عمليات الهجرة من أفريقيا، وتحتدم المنافسة بين القوى العظمى على موارد القارة، ويتواصل الفقر وضعف الحكومات، فتبقى هذه المظاهر جزءاً من مستقبل أفريقيا كما كانت جزءاً من ماضيها.

مع ذلك، يبقى العالم المبني على توسيع هامش المساواة هدفاً صحياً في جميع الظروف. لم يفهم أي من المفكرين أهمية المساواة بين البلدان بقدر الفيلسوف الاسكتلندي آدم سميث، مؤسس الاقتصاد السياسي، في القرن الثامن عشر. هو يذكر في كتابه The Wealth of Nations (ثروة الأمم) أن الفجوة في الثروات والسلطة بين الغرب وبقية دول العالم مهّدت للاستعمار والحروب الظالمة، فكتب: «كان تفوّق الأوروبيين على مستوى القوة هائلاً لدرجة أن يتمكّنوا من ارتكاب جميع أنواع الظلم في تلك البلدان البعيدة من دون حسيب أو رقيب». أجّجت الاختلافات الكبرى مظاهر العنف واللاإنسانية، ومع ذلك تمسّك سميث ببصيص أمل، فتصوّر «أن تزيد قوة السكان الأصليين في تلك البلدان أو أن يضعف سكان أوروبا. قد يصل سكان جميع أصقاع العالم حينها إلى تلك المساواة المبنية على الشجاعة والقوة، وهي الوحيدة القادرة على تحويل ظلم الدول المستقلة إلى احترام معيّن لحقوق الأطراف الأخرى».


MISS 3