بشارة شربل

تتويج "الهندسات"

30 آب 2023

02 : 00

«مَن يهُن يسهلِ الهوانُ عليه

ما لجرحٍ بميِّتٍ إيلام»

تنطبق حكمة المتنبي في هذا البيت من الشعر على القضاء في لبنان اليوم.

مع الأسف يثبت القضاء، مرة تلو مرة في السنوات الأخيرة، أنه مشمول بحال الانهيار التي تعانيها الدولة، وليس أفضل من المؤسسات التي تهتَّكت.

مخاصمة رياض سلامة للهيئة الاتهامية بعد تواطؤ عدم تبلّغه موعد الجلسة رغم تمتّعه بحماية رسمية، هي مهزلة لم تكن لتتم لو أنّ القضاء حسم أمره في هذه القضية واستخدم بعض ما تبقى له من قدرة على فرض احترام الأصول.

نعرف أنّ محامين كثيرين تحوّلوا «صيّادي فُرَص»، وأنّ المتهم أو المجرم حريص على أن يتمتع بأقصى إجراءات تأجيل وتسويف يسوِّغها القانون، أو بالأحرى الالتفاف على القانون. لكن تنازل قضائنا عن صلاحياته وتحوّله جزءاً من ماكينة «المنظومة» أتاحا لأهل السياسة الفاسدين تطويعه ووضع اليد عليه. ولم يكن «حرامي المركزي» بعيداً عن هذا المنحى، ولربما خَفي عن التحقيق الجنائي أكثر مما ظهر من المخالفات.

لم يبدأ الاستهتار بالقضاء من تاريخ «مخاصمة» سارق أموال المودعين المطلوب من «الانتربول»، بل بدأ يوم حُرم القضاء التحقيق في اغتيال الرئيس رينيه معوض عقب اتفاق الطائف مباشرة، ووصل الى ذروته في تعطيل التحقيق بانفجار المرفأ بقوة الأمر الواقع التي تزيَّت بزي «حق ردّ» قضاة ومخاصمة الدولة وكل الأحابيل القانونية التي كان في الإمكان ردعُها لولا أنّ القضاء استهان بنفسه قبل أن يتحكّم بمفاصله المتهمون، وقبل أن يستتبعوا الذين كان حريَّاً بهم الاستقالة قبل ارتكاب جريمة «الامتناع عن إحقاق الحق».

قد تلحق قضية رياض سلامة بكل الجرائم المفضوحة التي لم تصل يد العدالة الى مرتكبيها. وهي على فداحتها، كونها أضرّت بمئات آلاف العائلات وتسبّبت في انهيار العملة الوطنية، تبقى أقل مأسوية من قتل 230 شخصاً وجرح ستة آلاف وتدمير عشرات آلاف الشقق في تفجير النيترات في 4 آب. مؤلمٌ أن نجري هذا النوع من المقارنات، لكن الواقع أقوى من الرغبة في «مكيَجة» الأحداث المقزّزة لحفظ الحد الأدنى من الآمال بمؤسسة لن تقوم قائمة للبنان إذا لم تتحقق استقلاليتها، ولم تستعِد هيبتها، وإذا لم تكن نياباتها العامة خصماً شريفاً وقضاؤها الجالس سيّد الأحكام.

رياض سلامة يشبه مجرمين كثيرين وجدوا عشرات المحامين المستعدين للفصل بين مراكمة الأرباح وأخلاق المهنة، فتجنَّدوا للعبث بالقوانين وتوسيع الثغر لعلمهم بالبئر وغَطائها. فرادتُه أنه أول حاكم مصرف مركزي يدخل التاريخ من أقذر الأبواب بحماية أبشع منظومة سياسية لا يردعها رادع عن متابعة سياسة «الإفلات من العقاب»، وأنه يتوّج «هندساته» بهدم آخر حجَر في القضاء.


MISS 3