مايكل بيكلي

إنفراج العلاقات بين الصين والولايات المتحدة... مجرّد وهم

31 آب 2023

المصدر: Foreign Affairs

02 : 00

الرئيس الأميركي جو بايدن ونظيره الصيني شي جين بينغ على هامش قمّة مجموعة العشرين في بالي | إندونيسيا، 14 تشرين الثاني 2022

في ظل تدهور العلاقات الأميركية الصينية بدرجة غير مسبوقة منذ أكثر من خمسين سنة، تعود نظرية قديمة إلى الواجهة دوماً: يكفي أن تكثّف الولايات المتحدة الحوار مع الصين وتتقبل توسّع نفوذها كي يعيش البلدان بسلام. تستطيع واشنطن أن تعترف بخطوط بكين الحمراء وتعيد رسم الخطوط الساخنة للأزمات والتبادلات الثقافية. مع مرور الوقت، قد يستقر وضع البلدَين بعد تجديد التواصل الثنائي، فينجحان في التعايش بطريقة سلمية رغم استمرار المنافسة بينهما. حتى أن بعض المحللين يتوقع أن يبرم الطرفان صفقة كبرى لتحديد نطاقات مستقرة للنفوذ وحل مشاكل عالمية مثل التغير المناخي والأوبئة.



من المستبعد أن تتبع الولايات المتحدة والصين هذا المسار، نظراً إلى تضارب مصالحهما الحيوية التي ترتكز على أنظمة سياسية ومعطيات جغرافية وتجارب وطنية مختلفة. كذلك، يزيد التباعد بين البلدين بسبب الروابط التي تجمعهما، مثل التجارة الموسّعة، فهي تمنح صانعي السياسة أسباباً إضافية للقتال واستغلال الضغوط المتصاعدة. لا يستطيع أيٌ من الطرفَين تقديم تنازلات كبرى من دون فضح نفسه. وبعد عقود من التعامل الثنائي، جمعت كل حكومة قوائم طويلة من الانتقادات تجاه الطرف الآخر ويفتقر الفريقان إلى الثقة المتبادلة. حاولت الولايات المتحدة التعاون مع الصين مراراً بين السبعينات والعقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، لكن لطالما اعتبر كبار القادة الصينيين المساعي الأميركية شكلاً خبيثاً من الاحتواء، أو مؤامرة لإضعاف سطوة الحزب الشيوعي الصيني وجعل الصين تزيد اتكالها على الآخرين اقتصادياً وترضخ للغرب سياسياً.

عملياً، يصعب أن تتلاشى المنافسة القائمة بين الولايات المتحدة والصين من دون حصول تغيير بارز في ميزان القوى. يجب أن تقوم واشنطن بخيارات سياسية مبنية على هذا الواقع بدل أن تتمسك بوهم عابر. لا يعني ذلك وقف الجهود الدبلوماسية أو إنهاء المحادثات بالكامل، بل يُفترض أن يُحدد المعنيون الأهداف الواقعية التي يمكن تحقيقها عن طريق التواصل. لا يزال الأمل موجوداً بأن تلين القوة الصينية على المدى المتوسط ويتحقق إنجاز دبلوماسي حقيقي في مرحلة معينة. لكن لبلوغ هذا الهدف، يجب أن يمنع الأميركيون وحلفاؤهم أي عدوان صيني على المدى القريب ويتجنبوا التنازلات التي تعيق النزعات الإيجابية على المدى الطويل.

يشير السيناريو الأقرب إلى الواقع في السنوات المقبلة إلى نشوء حرب باردة حيث تتابع الولايات المتحدة والصين فك ارتباطهما في القطاعات الاقتصادية الاستراتيجية، وتتابعان مواجهتهما العسكرية في شرق آسيا، وتدعمان رؤيتهما المتضاربة للنظام العالمي، وتتنافسان لحل المشاكل العابرة للحدود. قد تكون الحروب الباردة مريعة لكنها تبقى أفضل من الحروب الساخنة. تتعدد الروابط التي تجمع الولايات المتحدة والصين، لكنها تعزز انعدام الأمان في البلدَين وتتحول مع الوقت إلى ساحات جديدة للصراع. من الأفضل إذاً أن تنشأ مناطق عازلة بين الطرفَين، بدل محاولة تعزيز الترابط بينهما.

لكن لا تعني الحرب الباردة انتهاء جميع أشكال التعاون. سبق وتعاونت الولايات المتحدة مع الاتحاد السوفياتي للتخلص من مرض الجدري رغم تنافسهما على الهيمنة. تاريخياً، لطالما حافظت القوى العظمى المتنافسة على شكل من التجارة على الأقل في القطاعات غير الاستراتيجية وعلى روابط اجتماعية متبادلة. قد تستمر المحادثات الدبلوماسية، شرط ألا تسبقها تنازلات كفيلة بزعزعة الاستقرار. في المقابل، تسمح الحرب الباردة للولايات المتحدة باحتواء الصين، وتختلف هذه الاستراتيجية عن تجديد التواصل بكل وضوح.

قد يعطي الاحتواء نتائج عكسية في البداية لأن القادة الصينيين سيُعبّرون عن استيائهم العارم، بما يتماشى مع دبلوماسية «الذئب المحارب» الصينية. لكنّ السياسة التي تبدو أكثر خطورة على المدى القريب قد تتحول إلى أفضل فرصة لإرساء سلام دائم، بينما تصبح السياسة التي تبدو الأكثر أماناً في الوقت الراهن كارثية على المدى الطويل. قد يبدو تجديد التواصل حلاً وسطياً حذراً كونه يتراوح بين الاسترضاء والاحتواء، لكنه قد يصبح الخيار الأكثر خطورة لأنه لا يلبّي مطالب الصين ولا يمنعها من تحقيق ما تريده بالقوة. وبما أن القادة الصينيين يعتبرون الاقتراحات الأميركية التي تدعوهم إلى التواصل شكلاً ضمنياً من الاحتواء، لن تضطر الولايات المتحدة للاختيار بين التواصل والاحتواء، بل بين شكل ضعيف واستفزازي من الاحتواء ونسخة واضحة وصارمة قد تنذر بمنع العدوان الصيني.

يبرز أيضاً خيار الاستسلام. تستطيع الولايات المتحدة أن تتجنب الصراع مع بكين، على المدى القصير على الأقل، عبر الاعتراف بمطالبات الصين بالأراضي وسحب القوات الأميركية من شرق آسيا. لا يؤيد الكثيرون هذا النوع من التنازلات المتطرفة. لكن قد يبدو خيار التواصل مقنعاً بسبب فرضية ضمنية شائعة مفادها أن الولايات المتحدة قادرة على إعادة ضبط العلاقات في أي لحظة إذا فشل التواصل، فتمنح الصين نطاقاً معيناً لفرض نفوذها وتتجاوز هذه الظروف من دون أن تتضرر. وفق هذا المنطق، من الأفضل أن يتكيف الأميركيون مع الصين ويجازفوا باسترضائها بدل أن يفضلوا احتواء الصين ويجازفوا بخوض الحرب.

لكن عند اختيار الاستسلام، قد تعجز الولايات المتحدة وحدها عن تلبية مطالب الصين. لإرضاء الحزب الشيوعي الصيني، ستضطر تايوان لتقبّل انضمامها إلى نظام دكتاتوري وحشي، وستُجبَر الدول المجاورة على توسّل بكين لأخذ الإذن بالتنقل خارج سواحلها. لا يُعتبر أيٌ من هذه التطورات واقعياً، بل إن التراجع الأميركي لن يُمهّد على الأرجح للانتقال إلى حقبة سلمية من الهيمنة الصينية، بل تبدو الفوضى العنيفة الأقرب إلى الواقع. تتعدد المجازفات التي تلوح في الأفق، أبرزها عسكرة اليابان بالكامل، وتجاوز عتبة الاختراق النووي في سيول، وتايبيه، وطوكيو، وزيادة جرأة كوريا الشمالية. لكن تبرز أيضاً آثار محتملة أقل وضوحاً، منها انهيار سلاسل الإمدادات الآسيوية والتحالفات الأميركية في أوروبا لأنها قد لا تتحمل صدمة الفراغ الأمني الذي تتركه الولايات المتحدة وراءها قبل أن تأتي الصين لِمَلْئه.

قد يتمكن الأميركيون من تجاوز العاصفة المرتقبة بفضل الأمان السائد في نصف الأرض الغربي، لكن يكشف تاريخ الحربَين العالميتَين أن دوامة أوراسيا قد تجرّهم إلى المشاكل في نهاية المطاف. في الحد الأدنى، يجب أن تُسلّح الولايات المتحدة نفسها بالكامل لتجنّب هذا الاحتمال ومنع العملاق الصيني من الاستيلاء على الأراضي الأميركية في غرب المحيط الهادئ بعد فرض سيطرته على شرق آسيا. في مطلق الأحوال، ستعود الولايات المتحدة إلى نقطة البداية، ما يعني أن تسعى إلى احتواء الصين، لكنها ستفتقر هذه المرة إلى الحلفاء، وسلاسل الإمدادات الآمنة، والقوات المتقدمة، وحتى المصداقية. للتعويض عن هذه النواقص، قد تضطر الولايات المتحدة لتحويل نفسها إلى دولة حامية، حيث تستنزف العسكرة الخطيرة ثرواتها وحرياتها المدنية.

قد يصبح الاستسلام خياراً يستحق المحاولة إذا اقتصرت الخيارات البديلة الأخرى على خوض حرب ساخنة وكارثية أو التورط في حرب باردة لامتناهية ومدمّرة اقتصادياً.

لكن تتعدد الأسباب التي تنذر بتحوّل الاحتواء الأميركي للصين إلى أداة مؤقتة لبلوغ مستقبل أفضل. خلال الحرب الباردة الأصلية، كان الاحتواء مُصمّماً لمنع التقدم السوفياتي إلى أن استنزف ضعف النظام الشيوعي قوة موسكو وأجبر السوفيات على كبح طموحاتهم بطريقة جذرية. يُفترض أن يسعى المعنيون إلى تحقيق الهدف نفسه مع الصين اليوم، وقد لا تتطلب هذه العملية أربعة عقود أخرى بالضرورة. بدأت محركات النمو الصيني تتباطأ منذ الآن، ومن الواضح أن القوة الوطنية الصينية الشاملة تتأثر اليوم بعوامل متنوعة، أبرزها تباطؤ النمو، وزيادة الديون، وقلة كفاءة الحكام المستبدين، وهروب الرساميل، وبطالة الشباب، وتراجع عدد السكان. في غضون ذلك، جمع الحزب الشيوعي الصيني عدداً متزايداً من الأعداء القريبين والبعيدين. بدأ جزء كبير من جيران الصين يقوي جيوشه، وتفرض الاقتصادات الكبرى التي تسيطر على أكثر من نصف ثروات العالم، بقيادة مجموعة السبع، مئات القيود التجارية والاستثمارية الجديدة على بكين سنوياً.

حاولت الصين أن تؤكد حُسن نواياها في أنحاء الجنوب العالمي عبر تخصيص قروض تفوق قيمتها التريليون دولار لصالح أكثر من مئة بلد. لكن ستستحق تلك القروض بحلول العام 2030، ولن تسترد الصين جزءاً كبيراً منها. يصعب أن يتابع أي بلد يواجه هذا الكمّ من الديون والخصوم التنافس مع قوة عظمى وحلفائها الأغنياء. لن تضطر الولايات المتحدة لاحتواء الصين إلى الأبد، بل لمدة طويلة بما يكفي وصولاً إلى ترسيخ النزعات الراهنة. في هذه الحالة، سيبدو حلم الرئيس الصيني شي جين بينغ بفرض الهيمنة الصينية مستعصياً، وقد يشعر كل من يخلفه بأنه مضطر لمعالجة الجمود الاقتصادي المحلي والحصار الجيوسياسي عبر الاعتدال الدبلوماسي والإصلاحات الداخلية.

في غضون ذلك، لن تؤدي سياسة الاحتواء إلى اندلاع صراع عنيف بالضرورة. قد تدفع المنافسة القائمة بالولايات المتحدة والصين إلى خوض سباق تكنولوجي يوصل المعارف البشرية إلى مستويات غير مسبوقة ويطرح حلولاً مبتكرة للمشاكل العابرة للحدود. قد تعني هذه الظروف أيضاً أن يطوّر البلدان المتنافسان كتلاً سلمية داخلياً تتألف من دول تحمل العقلية نفسها، حيث تُستعمَل وسائل سلمية مثل تقديم المساعدات، واستمالة الناس، وتوسيع النفوذ على الهوامش. قد لا يكون هذا النوع من التنافس سلبياً بالنسبة إلى العالم، وهو يبقى أفضل من خوض حروب بين القوى العظمى كتلك التي طبعت معظم التاريخ المعاصر. قد يكون الحلم بإنشاء «عالم واحد» يقوم على نظام دولي موحّد ومتناغم مستحيلاً في الوقت الراهن، لكنّ هذا الوضع لا يمنع إقامة علاقات سلمية، رغم توترها، بين نظامَين متنافسَين. قد يترافق احتواء الصين في خضم هذه المنافسة مع مخاطر وتكاليف كبرى، لكنه أفضل خيار لتجنب صراع أكثر تدميراً.


MISS 3