حسان الزين

لم يُدرس الفكر العربي الذي أُنتج منذ أواسط القرن العشرين ولا جغرافية الثقافة الحديثة

خالد زيادة: الطائفية تحوّلت من ظاهـرة تمثيل سياسي إلى تمثيل شعبي

2 أيلول 2023

02 : 04

خالد زيادة

يحضر تاريخ لبنان الحديث، وتحضر الثقافة العربية وأحوال واجهتها بيروت، خلال الحوار مع الدكتور خالد زيادة. هكذا يوسّع الرؤية ليحلّل المجتمع والسياسة ويقرأ الماضي والحاضر. ودائماً بعقل هادئ. فيضيف جديداً إلى ما هو مألوف وسائد ومستهلك بشأن الطائفية ومفارقات لبنان وأحواله. تماماً، مثلما فتح نافذة ثقافية في إقامته الدبلوماسية في القاهرة سفيراً للبنان ومندوباً دائماً في جامعة الدول العربية (2007 - 2016). وقد بات في حقيبة زيادة، الذي يشغل حالياً منصب مدير «المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات»- فرع بيروت، مجموعة متنوعة من المؤلّفات: «المسلمون والحداثة الأوروبية» و «كتاب السلطان: حرفة الفقهاء والمثقفين» (المركز العربي)، «المدينة العربية والحداثة» و «حوارات في الثقافة والتاريخ» (رياض الريس للكتب والنشر»)، «حكاية فيصل» وثلاثية طرابلس (دار النهار)، «الخسيس والنفيس: الرقابة والفساد في المدينة الإسلامية» (الدار المصرية اللبنانية). وقد حقق عدداً من النصوص التاريخية.



أحب أن نبدأ حوارنا من لبنان: من منظارك كباحث في التاريخ الاجتماعي والثقافي، كيف تقرأ المرحلة في لبنان، كيف تصفها؟

أحد الأمور التي لا نعيرها اهتماماً كافياً تتعلق بولادة لبنان الحديث في القرن التاسع عشر، وقبل ولادة لبنان الكبير عام 1920، من المعلوم أن بيروت أصبحت إبان الحكم المصري (1831 - 1840) مرفأ مهماً سرعان ما أدى إلى تطور بيروت كمدينة تجارة منفتحة على أوروبا.

يكفي أن نذكر أن بيروت التي كان عدد سكانها خمسة آلاف عام 1800 أصبح مئة ألف عام 1900، وخلال قرن من الزمن أصبحت نموذجاً للمدينة الحديثة بمعنى تمثل أنماط العيش والاقتصاد والثقافة الغربية. نذكر على سبيل المثال ما شهدته من افتتاح مدارس أهلية وإرساليات أجنبية وصولاً إلى افتتاح الكلية الإنجيلية (الجامعة الأميركية) والجامعة اليسوعية، مع ظهور أفكار جديدة وإسهامات المثقفين اللبنانيين في إحياء اللغة والآداب العربية.

لكن ذلك لم يترافق مع تطور سياسي، خصوصاً أن إنشاء المتصرفية الذي أخذ بتمثيل الطوائف قد أدى إلى إسناد تمثيل المناطق إلى أبناء الأعيان والعائلات التقليدية شبه الاقطاعية.

هؤلاء الأعيان استمروا في تمثيل مناطقهم بعد إعلان لبنان الكبير. من هنا، يمكننا أن نتحدث عن تطور غير متكافئ، إذا جاز التعبير، بين التطور الاجتماعي- الاقتصادي- الثقافي الذي كان يشهده لبنان وخصوصاً عاصمته، وبين تقليدية التمثيل السياسي الذي يقوم على الولاءات الأهلية. مع ذلك، فإن السياسيين الذين كان اليسار يطلق عليهم صفة (الاقطاع السياسي) تعايشوا مع تطور التحديثات الاجتماعية، وكانوا يكتفون بحصصهم عبر توظيف الأتباع أو عضوية في مجالس إدارة الشركات والمصارف، وكان الرئيس فؤاد شهاب يطلق عليهم اسم «أكلة الجبنة».

حدث تطور هام خلال فترة حكم الرئيس شهاب، فقد شهد لبنان تحديثات في مجالات الإدارة، وفي التعليم خصوصاً مع إنشاء كليات الجامعة اللبنانية، وفي تنمية الأرياف. إلا أن الرئيس شهاب لم يستطع أو لم يشأ أن يقوم بالإجراءات التي تفضي إلى تحديث النظام السياسي، بل إن النظام الانتخابي المعروف باسم (قانون الستين) كرّس التمثيل التقليدي العائلي الضيق الذي اعتمد القضاء وحدة انتخابية.

وبالرغم من التحديثات الإدارية التي قام بها الرئيس شهاب، إلا أن عهده شهد نمواً للظواهر الطائفية. فمن جهته وليحد من نفوذ خصومه الموارنة (كميل شمعون، ريمون إده) عمد إلى تكريس حزب الكتائب ممثلاً غير وحيد للموارنة. وبذلك فإن الظاهرة الطائفية التي كانت تقتصر على النخب السياسية قد وصلت إلى الفئات الوسطى مع ما يحمله حزب الكتائب من أيديولوجية تقوم على تمثيل المسيحيين. والظاهرة الأخرى التي عرفها عهد الرئيس شهاب تتمثل بالنشاط الذي أبداه الإمام موسى الصدر الذي أفضى إلى تأسيس حركة المحرومين ثم حركة «أمل».

المفارقة أن لبنان الذي كان يشهد ذروة التحديث في الستينات على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية خصوصاً، كانت الطائفية، تتسع وتتكرس وتتجذر وستظهر آثار ذلك في السنوات التالية.

أقصد بذلك أن الطائفية في لبنان كانت تتطور وتنتقل من ظاهرة تمثيل سياسي إلى ظاهرة تمثيل شعبي. في الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي، لم يكن أبناء الشمال أو البقاع أو الجنوب ينتخبون نوابهم باعتبارهم ممثلين لطوائف، بل ممثلين لمناطق، بينما كان الشباب من كل الطوائف ينجذب إلى الأحزاب العقائدية. ولكن الأمر بدأ يتغير مع السبعينات واندلاع الحرب في لبنان.

أفهم من كلامك أن ما نحن فيه امتداد أو نتيجة لما حصل في الماضي، وهل ترى أسباباً جديدة؟

لا يمكن أن ننفي في كل المجتمعات أثر الماضي في الحاضر، ولكن ذلك لا ينفي أن الظواهر تتطور وتتبدل خصوصاً إذا شهدت البلاد تغيرات عنيفة. كانت الحرب التي امتدت ما يقرب من عقد ونصف العقد من الزمن قد أدّت إلى تغيرات عميقة. ظهرت آثارها بعد نهاية الحرب وإعلان وثيقة الوفاق الوطني (الطائف)، فقد أصبح الشرخ أكثر وضوحاً، من جهة ثمة ورشة إعمار تهدف إلى إعطاء لبنان دوراً اقتصادياً إقليمياً أو دولياً. ومن جهة أخرى سيطرة أمراء الحرب على مقاليد السياسة والتمثيل النيابي والحكومي، وقد أصبح ذلك أكثر وضوحاً في العقدين الماضيين. وإذا كان السياسيون التقليديون (الاقطاع السياسي) يكتفون بحصص في التوظيف أو الالتزامات أو الشراكات، فإن السياسة في لبنان صارت تعني تقاسم الدولة حصصاً وجعل الدولة وأموال اللبنانيين منهبة أوصلتنا إلى ما نحن عليه اليوم.

كيف أدّت كل هذه التطورات إلى التراجع أو الانهيار الذي نراه على المستويات كلها؟

لم يقف السياسيون التقليديون في الأربعينات والخمسينات وحتى الستينات من القرن العشرين حائلاً دون تطور الاقتصاد والتقدم الذي أحرزه لبنان في مجال الثقافة. ولكن ما شهدناه في العقدين الأخيرين هو لامبالاة السياسيين إزاء تراجع دور لبنان الاقتصادي والثقافي، وربما أسهموا في هذا التراجع، لا يمكن تبرئة القوى السياسية المسيطرة من الانهيار المالي، ولا يمكن تبرئتهم من انهيار التعليم وخصوصاً بعد وضع اليد على الجامعة اللبنانية وإدارة ظهورهم اليوم لما تعانيه.

وإنما ثمة جانب آخر، يتعلق بدور لبنان في محيطه، لقد كان لبنان ولفترة عقود من الزمن، مستشفى العرب ومصرفهم ومنارة الثقافة العربية وجامعتهم، ولكن ذلك تغير. لقد نشأت مدن تنافس ما كانت عليه بيروت بمستشفياتها ومصارفها، وجامعاتها، ونوع الحياة، وخدماتها. ولكن ما بقي للبنان هو تراث الحداثة ومساحة الحرية التي تتقلص يومياً بشكل دراماتيكي.

هل يمكن للبنان أن يستعيد هذا الدور، أم انتهى الأمر؟

إن المسألة اليوم ليست استعادة لبنان لدوره، ولكن الحفاظ على هويته التي تتمثل بالتنوع والتعددية والانفتاح على الثقافات والحريات العامة. وهذا ما يتطلب وعياً أكبر وتضافر الجهود للحفاظ على هويته.

أما في ما يتعلق بدور لبنان الذي بلغ ذروته في الستينات من القرن العشرين، حين أصبح لبنان واجهة العالم العربي الثقافية، فيصعب القول إن هذا الدور يمكن استعادته. لقد حدث ذلك في ظل ظروف عربية وعالمية تبدلت جذرياً. مع ذلك، فإن ما يمتلكه لبنان من مساحة حرية هي الأمل الوحيد في الحفاظ على هويته وبالتالي تمايزه.

ما تأثير الصراع الأيديولوجي على تاريخ لبنان، وفي الثقافة عموماً، على الإنتاج البحثي والأدبي؟

لبنان جزء من المشرق العربي، الذي غرق في الجدالات والسجالات العقائدية والأيديولوجية بين القومية اللبنانية والسورية والعربية، وصراعات الرأسمالية والشيوعية، إلى الحد الذي أدّى حين احتدم صراع الأيديولوجيات، إلى أن نسأل حين يبرز اسم شاعر أو مفكر أو باحث عن انتمائه الحزبي قبل السؤال عن موهبته أو كفاءته. ولهذا السبب تأخر التفكير الحر والأكاديمي في لبنان والمشرق بسبب السجالات العقائدية التي استنزفت الطاقات الفكرية. وحين نرجع بالذاكرة ستة أو سبعة عقود مضت قلما نعثر على مفكر جدير بهذا الاسم، لقد خربت الأيديولوجيات المشرق العربي فكرياً وثقافياً.

أما في لبنان، وعدا عن الشهرة التي اكتسبها أدباء المهجر، وهي شهرة لم تتجاوز حدود لبنان إلا قليلاً، فإن الأدب اللبناني حتى خمسينات القرن العشرين بقي محلياً، ولكن في الخمسينات برز دور لبنان في مجال النشر وتأسيس المجلات الثقافية مثل (الآداب وشعر وحوار ودراسات عربية).

إن الإسهام الكبير للبنان هو في ترجمة الآداب العالمية، وكان ذلك نادراً في البلدان العربية، بما في ذلك مصر التي كانت حتى ذلك الوقت رائدة الثقافة العربية. لكن بيروت نافست القاهرة في مضمار النشر، ونافستها في احتضان المواهب المشرقية من سورية وفلسطينية وعراقية الذين اتخذوا من بيروت منصة لإبراز مواهبهم. في تلك الفترة، حضر الشعر على حساب الأنواع الأدبية الأخرى، ولعل السبب في ذلك أن الأيديولوجية تحفز الشعر والخطابة.

على طريقة عناوين كتبك، أسألك ما الذي يمكن أن تقدمه الثقافة والمثقفون والمثقفات في لبنان للخروج من الأزمة؟

كنت أظن أن حديثنا سيقتصر على الثقافة، ولكنك أخذتنا إلى التاريخ والسياسة والانتفاضة، وكل ذلك على أي حال هو جزء من الثقافة.

أما بخصوص سؤالك فإن الرأي الصريح أنه لا أدوار واضحة وصريحة للمثقف في وقتنا الراهن. ربما فكرة دور المثقف تعود إلى الماضي وإلى تجارب محددة. فهي في الأصل فكرة فرنسية - لاتينية تتصور دوراً للمثقف في الاعتراض والثورة والنقد والتغيير، لكن هذه الفكرة انتهت اليوم حتى في فرنسا مع ريجيس دوبريه وبيار بورديو اللذين أعادا النقاش حول دور المثقف. وقد شرحت ذلك في مقدمة كتابي «كاتب السلطان».

في إطارنا العربي كان لدينا نوعان من المثقف، الأول هو التربوي التنويري أمثال أحمد لطفي السيد وطه حسين وسلامة موسى، الذين لعبوا دوراً تربوياً وتثقيفياً لأجيال عدة، واليوم لم يعد لدينا أمثال هؤلاء. أما النوع الثاني فهو المثقف الأيديولوجي الحزبي الذي يعتبر أن دوره يكون من خلال النضال الحزبي للوصول إلى الأهداف المرجوة.

في النصف الأول من القرن العشرين، كان المثقفون حقوقيين وأدباء وكتّاب ساهموا من خلال كتاباتهم في بناء مؤسسات الدولة، وأنشأوا الصروح العلمية والجامعية وكانوا بمثابة أساتذة للخاصة وعامة الناس. ولكن اليوم فإن من نعتبرهم مثقفين هم موظفون في مؤسسات الدولة وخصوصاً الجامعات، أو في مؤسسات إعلامية لها توجهاتها وحساباتها. بالتالي، فإن وضعية المثقف قد تبدلت كما تبدلت وظيفته. لكن ذلك كله لا ينفي دور الثقافة بمعناها الواسع، فأولئك الذين يؤمنون بثقافة الحرية يمكنهم أن يسهموا بتحرير مجتمعاتهم.

إن فكرتي الأساسية في هذا الخصوص تميز بين دور المثقف ووظيفته، فإذا كنا نشهد اليوم انحساراً لأدوار المثقفين فإن المطلوب أن يقوم المثقف، في أي مجال من المجالات التي يعمل فيها بوظيفته بالبحث والتنقيب، أشير بوجه خاص إلى الأساتذة الجامعيين في لبنان، الذين لا يقومون بالوظائف المنوطة بهم.

في فترة الستينات شهدنا نشاطاً جامعياً مرموقاً في كليات الاجتماع والآداب والعلوم. وبرزت أسماء باحثين قدموا أبحاثاً عميقة. أما اليوم فإننا قلما نعثر على بحث جامعي جاد. وهذا الأمر ينسحب بنسب متفاوتة على معظم الجامعات في العالم العربي.




خالد زيادة


خالد زيادة مع الأخضر الإبراهيمي


زيادة مع عمرو موسى



طالما أنك أشرت إلى تراجع البحث الأكاديمي، كيف تنظر إلى الواقع الثقافي العربي؟

قرأنا العديد من الدراسات التي تؤرخ للفكر العربي الحديث منذ بداية القرن التاسع عشر وحتى منتصفه. لكن لم تدرس المرحلة منذ أواسط القرن العشرين وحتى يومنا الراهن. هذا من جهة، ومن جهة أخرى لم تدرس خريطة الثقافة العربية أو جغرافية الثقافة العربية الحديثة. من المعلوم أن لمصر دوراً رائداً وفريداً لمدة من الزمن وكان إسهام لبنان في النهضة اسهاماً ملموساً، ولكن مصر انفردت في النصف الأول من القرن العشرين بالريادة الفكرية والأدبية مع أمثال سلامة موسى وعباس محمود العقاد وطه حسين. وكانت مصر مصدراً للأفكار الليبرالية والعلمانية والإصلاحية الدينية. ومن القاهرة كانت تأتي المجلات الفكرية والأدبية. ومع بداية الخمسينات بدأ دور لبنان يصعد وخصوصاً في مجال الترجمة عن اللغات الأجنبية وإصدار المجلات الأدبية والفكرية. وفي الستينات نافست بيروت القاهرة وخصوصاً في مضمار احتضان التيارات الحداثية ولا سيما في الشعر. واستمر دور لبنان الثقافي بالاتساع في السبعينات حين أصبحت بيروت مركزاً للنشر وترجمة الأعمال السياسية والتاريخية والفكر الاشتراكي والليبرالي. والملفت للانتباه أن لبنان الثقافي استمر في سنوات الحرب التي شهدت مزيداً من افتتاح دور النشر وإصدار المجلات الثقافية. في الفترة نفسها التي كان فيها دور مصر الثقافي يتراجع وخصوصاً بعد القطيعة إثر اتفاقية كامب دايڤيد.

ومع العقدين الأخيرين من القرن العشرين، برز المغرب العربي ليصبح جزءاً من الخريطة الثقافية، وخصوصاً لجهة البحث الأكاديمي في مجالات الفكر والتاريخ والاجتماع مع التأثير الواضح بالمنهجيات الغربية وخصوصاً الفرنسية. وقد نشر جزء من الإنتاج الثقافي المغربي في بيروت.

يبقى أن نشير إلى نهوض ثقافي في بلدان الخليج العربي مع إصدار المجلات الثقافية ومراكز الأبحاث ودور النشر تقدم أعمالاً في مجال الترجمة وفي مجال التأليف.

ختاماً، وبصفتك مديراً لفرع بيروت في «المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات»، نودّ أن تخبرنا عن نشاط المركز وإنتاجه.

كما هو اسم المركز، فإنه يهتم بالسياسات بالمعنى الواسع للكلمة أي السياسات الاجتماعية والاقتصادية فضلاً عن علاقات العالم العربي بمحيطه والتطورات الدولية. والمركز ينظّم مؤتمرات وندوات تركز على أهدافه في معالجة المسائل الفكرية في المجالات المذكورة أعلاه. ويصدر عدداً من المجلات المختصة في العلوم الإنسانية والاجتماعية والسياسية والتاريخية. ويفسح المركز المجال لنشر أعمال الباحثين العرب، ويقوم بترجمة المؤلفات عن الإنكليزية والفرنسية والألمانية وغيرها، والتي تتوزع بين أعمال لكبار المفكرين الغربيين، وبين الأعمال التي تتناول التاريخ والمجتمع العربي.

«انـــتـــفـــاضـــة 17 تـــشـــريـــن»

أشرف الدكتور خالد زيادة على إعداد كتاب «انتفاضة 17 تشرين في لبنان: ساحات وشهادات»، الذي صدر عن «المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات». وأكثر ما لفت انتباهه في «الانتفاضة التي كانت بدايتها مبشرة وواعدة»، هو «أنها لم تقدر على إنتاج قيادة واحدة». ويقول: «أحصينا بضع مئات من المجموعات يقتصر بعضها على بضعة أفراد وبعضها على عشرات عدة، ويمكن إحصاء تنسيقيات سرعان ما انحلت، ولكن المنتفضين عجزوا عن إنتاج ما يشبه قيادة أو تنسيقية توحد الشعارات والمطالب. ولربما يعود ذلك إلى تفتت الولاءات وامتزاج العقائدي بالطائفي بالمطلبي، وعدم القدرة على صوغ الأولويات».

لكن، من الواضح بالنسبة إليه، أن «لبنان ما زال يمثل حالة خاصة في محيطه وخصوصاً لجهة علاقة السلطة بالمجتمع». ويشرح ذلك: «في الدول المجاورة استطاعت حكومات أن تقمع الانتفاضات بالعنف المفرط، أما في لبنان فليست الدولة هي التي قامت بهذا الدور، وإنما الأحزاب السياسية. وكان لانسحاب «حزب الله» أن أفقد الانتفاضة زخمها الذي كان لها في الأيام الأولى، ثم إن الأحزاب، كلٌّ على طريقته، خرّبت الانتفاضة، وصولاً إلى الانقسام بين أولئك الذين استمروا في اعتبار الطبقة السياسية مجتمعة هي المسؤولة وأولئك الذين صاروا يركزون على مصرف لبنان باعتباره وحده المسؤول عن الأزمة».

ويستدرك: «يمكن اعتبار الانتفاضة موجة قابلة لأن تتكرر ليس في لبنان فحسب، ولكن في البلدان العربية الأخرى».

يضيف: «إذا نظرنا إلى الانتفاضة باعتبارها حركة اجتماعية، فإن الدراسات العديدة التي صدرت (بالإنكليزية وغيرها) حول الحركات الاجتماعية لا تقول لنا إن هذه الحركات تحقق أهدافها في تغيير السلطة، وإنما تؤدي إلى تغييرات في المجتمع والثقافة تظهر على المدى المتوسط أو البعيد. ويمكن القول إن الحركات الاجتماعية يصعب أن تؤدي إلى تغيير مباشر في السلطة الحاكمة. تزامنت الانتفاضة في لبنان مع حركة «السترات الصفر» في فرنسا. وبالرغم من المشاركة الواسعة التي شهدتها الحركة الفرنسية إلا أنها تلاشت كما تلاشت الانتفاضة في لبنان. والانتفاضة في لبنان، التي كانت ذريعة للانهيار المالي، من دون أن تكون سبباً من أسبابه، قد أعقبها تراجع في سعر صرف الليرة اللبنانية الذي أدى بدوره، وهذا ما ينبغي أن نلاحظه، إلى تغيرات اجتماعية، من انهيار الطبقة الوسطى وهجرة واسعة للكفاءات والشباب. وكل ذلك يؤدي بطريقة أو بأخرى إلى تبدل في دور لبنان ووظيفته وهويته».


MISS 3