*نفقات الموازنة موزعة بين التوظيفات السياسية في القطاع العام وتقديم منافع للأغنياء والمصارف
*في الكهرباء تذهب منافع القطاع إلى عدة جهات سياسية... وليس لحزب سياسي واحد
*المالية العامة للدولة تخدم طبقة معيّنة في المجتمع هم أصحاب السلطة وتحقق لهم أهدافهم
*الموازنة أقرب إلى عملية حسابية أكثر مما هي سياسات عامة وتفتقر لأي تصور للواقع الإقتصادي
*أعلى أرقام الإنفاق في السنوات العشرين الاخيرة: رواتب القطاع العام وفوائد الدين العام والكهرباء
لم يعد الإنتقال من الإدارة المالية العامة التقليدية إلى إدارة مالية جديدة لتعزيز الأداء وتحسين الشفافية وبناء ثقافة المساءلة خياراً في لبنان، بل ضرورة قصوى في حال أرادت الطبقة السياسية انتشال المواطنين اللبنانيين من مستنقع الانهيار الذي يتخبطون فيه منذ 4 سنوات. لم يعد ممكناً الاستمرار في النهج الذي تسير عليه الادارة المالية العامة، التي تعاني (بحسب الخبراء) من النظام الإداري والمالي الذي يعتمد موازنة البنود التي تعيق المبادرة الذاتية لدى الإدارة، والنقص في شمولية الموازنة وضعف الرقابة البرلمانية وعدم وجود ثقافة المساءلة لدى المواطنين.
الندوة
هذه الاشكالية والتحولات المطلوبة كانت محور الندوة التي نظمتها الجمعية اللبنانية لحقوق المودعين ALDIC ومؤسسة kondar Adenauer Stiftung في جامعة القديس يوسف – ايفلان الاربعاء الماضي، بعنوان «اصلاحات الادارة المالية العامة في لبنان»، وتمّ خلالها فتح نقاش كيفية التحديث بما يساعد على اعتماد ممارسات أكثر فعالية وتعزيز الضبط المالي واتخاذ إجراءات شاملة لزيادة الإيرادات، وبذل الجهود لتحسين ادارة وكفاءة الإنفاق.
تكمن أهمية الندوة في أنها جاءت في التوقيت المناسب لتضع الاصبع على الجرح، اي في ظل التباطؤ المتعمد من قبل المنظومة السياسية في تنفيذ الاصلاحات المطلوبة من قبل صندوق النقد الدولي، ولا سيما منها التشريعات والاصلاحات المالية التي ستؤدي الى تعزيز المالية العامة وتوسيع القاعدة الضريبية، والتخلص من خسائر الشركات المملوكة من الدولة، واستكمال إعادة هيكلة الديون التي ينبغي أن تهدف إلى خفض الدين العام إلى مستوى يمكن تحمّله على المدى المتوسط.
صندوق النقد
تناول الممثل المقيم في لبنان لصندوق النقد الدولي فردريكو ليما في كلمته «كيفية استخدام اموال دافعي الضرائب بطريقة فعالة»، معتبراً أن «لبنان يحتاج الى بعض الاصلاحات الضريبية ومنها الضريبة على القيمة المضافة، بالاضافة الى بذل الجهود لبناء القدرات في وزارة المالية، فهناك تحديات لجهة الجهاز البشري بسبب تدني قيمة الرواتب بعد الازمة».
واعتبر ان «التحديات التي تواجه لبنان تبدأ في الموازنة العامة التي لا تعكس دائماً ارقام المصروفات مقابل الاموال المتوفرة، كما انه في الغالب لا يتم تنفيذ البنود التي تتضمنها أو التقيد بموعد اقرارها في الوقت المحدد»، مشدداً على أن «صندوق النقد يشجع على تنفيذ قانون اصلاحي، يساعد على مواجهة هذه التحديات وخلق سيولة مالية تساعد في تنفيذ الاصلاحات المطلوبة».
أضاف: «من الضروري ان يتزامن تنفيذ الاصلاحات الاقتصادية مع القرارات السياسية، فهناك مبادرات اصلاحية فشلت بسبب عدم وجود الارادة السياسية لانجاحها، والنجاحات الاقتصادية والاصلاحية السابقة التي تحققت في لبنان كانت مدعومة من القوى السياسية الممثلة في الحكومة، مثل اقرار الضريبة على القيمة المضافة، ولذلك فان صندوق النقد ملتزم ببناء القدرات ودعم الاصلاحات في لبنان لتحسين حياة الشعب اللبناني».
قبل الطائف وبعده
في الشق البحثي عرض مدير «مبادرة سياسات الغد» سامي عطالله وفريق عمله سامي زغيب ووسام مكتبي دراسة أظهروا فيها الاسباب السياسية والاقتصادية التي أدت الى استمرار العجز في ميزانيات الحكومات ما بعد الطائف، مقارنة مع ميزانيات الحكومات بعد الاستقلال وقبل الحرب الاهلية. فأشار عطالله الى أن «لبنان في عهد الجمهورية الثانية سجّل عجزاً في الموازنة سنوياً وهذا أمر ملفت. وبعد مقارنة الارقام المالية قبل اتفاق الطائف وبعده، تبين ان هناك وفراً في الموازنة منذ الاستقلال الى حين اندلاع الحرب الاهلية»، لافتاً الى أنه «بعد الطائف ونتيجة تغير النظام السياسي في لبنان من نظام معظم الصلاحيات التنفيذية فيه بيد رئيس الجمهورية، الى نظام برلماني تتوزع فيه المسؤوليات على مجلس الوزراء مجتمعاً، حصل خلل اساسي في ادارة الموارد العامة وادارات الدولة، وبات كل زعيم يريد حصة طائفته من هذه الموارد، مما زاد نفقات الدولة وتفاقمت العجوزات».
وأشار الى أنه «بعد الطائف لم تكن تحصل جباية كما هو مطلوب ولم تكن هناك زيادة للضرائب بشكل عادل، في الوقت الذي زادت فيه النفقات كي توزع على الحصص. لكل زعيم طائفة حصته، وحصص ومنافع تم تجسيدها في ثلاثة أمور أساسية يمكن استنتاجها من خلال أرقام الموازنة في السنوات العشرين الاخيرة وهي القسم الاول للقطاع العام والرواتب والثاني لقطاع الكهرباء والثالث لفوائد الديون».
منافع القوى الأمنية والعسكرية
أضاف: «هناك هجوم على القطاع العام باعتباره احد ابواب الهدر، بينما لغة الارقام تظهر أن عدد الموظفين في الادارة العامة لا يزيد عن 16 ألف شخص، أما الاعداد الاخرى فموزعة بين السلك الدبلوماسي والعسكري والقطاع التربوي ليصبح العدد نحو 300 ألف. وفي مقارنة للمنافع المالية التي تتقاضاها قوى الامن والجيش يمكن الاستنتاج أن لهذا تأثيراً كبيراً جداً على الموازنة والنفقات»، مشدداً على أن «هناك توظيفات سياسية في كل هذا القطاعات. ففي الكهرباء، هناك انتفاع من عدة جهات سياسية من القطاع وليس لحزب سياسي واحد، كما أن الفوائد العالية التي تمّ اعطاؤها على سندات الخزينة والتي بلغت 33 بالمئة من النفقات قبل الازمة، هي أعلى مما يفترض ومما يجب ان تكون عليه مقارنة مع دول العالم، وذلك من دون مبرر». ورأى أن «هذا يعني ان هناك توزيعاً لمنافع وايرادات الدولة لطبقة معينة هي الاغنياء والمصارف، ما يشير الى أن نفقات الموازنة موزعة بين التوظيفات السياسية في القطاع العام وتقديم منافع للأغنياء والمصارف، وهذا شكل من اشكال التوزيع الحصصي المنافعي والزبائني على حساب المواطن العادي والطبقة الوسطى».
الخوري وشمعون
وأكد عطالله أن «الموازنة ليست عملية حسابية بل لها أبعاد سياسية، كونها تحدد مصدر الضرائب والفئات الشعبية التي ستطالها، ونحن نعلم ان الطبقات الفقيرة هي التي تدفع اكثر. في المقابل يمكن القول ان هناك توزيعاً طائفياً وطبقياً لايرادات الدولة»، لافتاً الى أن «هذا النهج يختلف عما كان سائداً قبل الطائف، فصحيح انه كان هناك سابقاً توزيع للحصص لكن كان مسيطراً عليها من قبل رئيس الجمهورية الذي يقرر حجم الموازنة، وكان هناك أيضاً توزيع للمنافع ولكن كانت محكومة بسقف معين لم يكن يتخطاه. ففي عهدي الرئيسين بشارة الخوري وكميل شمعون كان هناك وفر في الميزانية 30 بالمئة، لأنهما كانا يتبنيان النظرية الليبرالية التي تقول إن الدولة يجب أن لا تتدخل في الاقتصاد والمجتمع».
أضاف: «في مرحلة فؤاد شهاب وشارل الحلو كانت الايرادات تساوي النفقات في الميزانيات، لكن في المقابل كانت سياستهما الاقتصادية تقوم على أنه يجب على الدولة ان تقدم خدمات وتبني مؤسسات (الضمان الاجتماعي والبنك المركزي/ بعثة ارفد لتحقيق الانماء المتوازن في المناطق)». وختم: «هنا يمكن ان نستنتج ان العوامل السياسية والايديولوجية تلعب دوراً مهماً، وتؤثر على العجز في الموازنة من خلال اي ربط للاقتصاد بالسياسة والمنافع».
17 سنة بلا موازنة
بلغة الارقام عرض زغيب ومكتبي أنه «خلال الـ 34 عاماً الماضية كان لبنان 17 مرة من دون موازنة: 12 مرة من دون موازنة نهائياً و5 مرات بموازنات كانت تقر في الاشهر الاخيرة من العام». ولفتا الى أنه «بالرغم من الازمة والانهيار الا أن الموازنة هي أقرب الى عملية حسابية اكثر مما هي وضع سياسات عامة، فهي تفتقر لأي تصور للواقع الاقتصادي للميزانية العامة للسنة القائمة فيها والسنوات التي بعدها، كما أنها تتضمن سلسلة طويلة من القوانين التي أحياناً تتعارض مع بعضها. وهذا يدل على أنه ليس هناك أي تصور على مستوى السياسات العامة».
واشار كل من زغيب ومكتبي الى أن «الانهيار الذي يحصل في المؤسسات العامة يعود لتدني قيمة الرواتب مما يسبب عدم انتظام العمل فيها، ويخلق ازمة كبيرة تتمثل في عدم القدرة على ادخال أموال على الخزينة العامة، ففي سنة 2021 تم تمديد المهل لتسديد الرسوم 25 مرة، بالاضافة الى أن أغلب طرق صرف الاموال في الدولة اللبنانية يتم عبر القاعدة الاثنتي عشرية وسلف الخزينة ونقل اعتمادات، ووصلت في العام 2021 الى اكثر من 40 بالمئة من مجمل الصرف في هذا العام». وختما بالقول: «بالمجمل، ادارة المالية العامة غير موجودة في لبنان ليس بسبب الضعف في القدرات البشرية او غياب المكننة فقط، بل لأن هناك قراراً سياسياً اتخذ منذ فترة بأن المالية العامة يجب أن تخدم فقط طبقة معينة في المجتمع هم أصحاب السلطة وتحقق لهم اهدافهم، وهذا ما اوصلنا الى الانهيار والكوارث».
لا موازنات من دون قطع حساب
في المداخلات تحدثت النائبة غادة أيوب عن أنه «لا يمكن ان نكمل في اقرار الموازنات من دون قطع حساب، وكل القرارات التي صدرت عن المجلس الدستوري تؤكد عدم دستورية اقرار موازنة من دون قطع حساب»، لافتة الى أن «الاهم هو انتظام المالية العامة، وبالتالي لا يمكننا ان نكمل بهذه الطريقة مع عدم محاسبة الحكومات على تقصيرها وعدم اقرار الموازنة بالوقت المناسب ضمن المهل الدستورية». وختمت: «يجب أن نفكر جدياً في تغيير شكل الموازنة، اي من موازنة بنود الى موازنة برامج واداء، مما يمكّن من محاسبة الوزراء كلّ ضمن اختصاصه لا سيما في حال تمت زيادة انفاقه من دون اي وجه حق».
الحوكمة والشفافية
رأى الأستاذ المُحاضر في قانون الضرائب والمالية العامة المحامي كريم ضاهر أن «أهمية اصلاحات الادارة المالية العامة في لبنان تكمن في ترسيخ مفهوم الحوكمة الرشيدة فيها، كما الشفافية والصدق في الارقام والتقديرات والفعالية في تنفيذ البرامج والوعود. وهذا يتطلب اصلاح النظام الضريبي كما اصلاحات موازية في انظمة وحوكمة المؤسسات العامة والشركات التابعة للدولة، كما ادارة الدين العام بهدف الوصول الى حالة من استدامة الدين، اي القدرة على تسديده او اعادة جدولته بشروط افضل»، لافتاً الى أن «تلك الاصلاحات تشمل ايضاً حسن ادارة المالية العامة وترشيد الانفاق، وتحفيز المداخيل من خلال عدة خطوات أولاها وقف الهدر في المؤسسات التابعة والشركات المملوكة من الدولة والصناديق (الجنوب /المهجرين...) فضلاً عن مؤسسة كهرباء لبنان التي يجب تنفيذ الاصلاحات فيها وادارتها على طريقة القطاع الخاص مع ابقاء ملكيتها للدولة».
أضاف: «يجب أن تتمتع ميزانية الدولة بالشفافية والوضوح وبمعايير دقيقة، وان تكون ارقامها اقرب الى محاكاة اقتصادية دقيقة مستندة الى احصاءات، وأن تأخذ بعين الاعتبار ان التقييم يجب ان يكون قريباً من الارقام ومطابقاً قدر الامكان للاهداف والتوقعات، بهدف تحقيق الشفافية وتحفيز الخدمات الضريبية واضفاء المصداقية والثقة»، مشدداً على أن «ذلك يساعد على تحفيز الالتزام الضريبي وتأمين الخدمات العامة المقابلة، وزيادة الواردات وتحفيز الاستثمارات والنمو الاقتصادي وصولاً الى تأمين العدالة الضريبية والاجتماعية، والانصهار الوطني الحقيقي المبني على فكر ومبدأ المواطنة».
الحوكمة والشفافية
رأى الأستاذ المُحاضر في قانون الضرائب والمالية العامة المحامي كريم ضاهر أن «أهمية اصلاحات الادارة المالية العامة في لبنان تكمن في ترسيخ مفهوم الحوكمة الرشيدة فيها، كما الشفافية والصدق في الارقام والتقديرات والفعالية في تنفيذ البرامج والوعود. وهذا يتطلب اصلاح النظام الضريبي كما اصلاحات موازية في انظمة وحوكمة المؤسسات العامة والشركات التابعة للدولة، كما ادارة الدين العام بهدف الوصول الى حالة من استدامة الدين، اي القدرة على تسديده او اعادة جدولته بشروط افضل»، لافتاً الى أن «تلك الاصلاحات تشمل ايضاً حسن ادارة المالية العامة وترشيد الانفاق، وتحفيز المداخيل من خلال عدة خطوات أولاها وقف الهدر في المؤسسات التابعة والشركات المملوكة من الدولة والصناديق (الجنوب /المهجرين...) فضلاً عن مؤسسة كهرباء لبنان التي يجب تنفيذ الاصلاحات فيها وادارتها على طريقة القطاع الخاص مع ابقاء ملكيتها للدولة».
أضاف: «يجب أن تتمتع ميزانية الدولة بالشفافية والوضوح وبمعايير دقيقة، وان تكون ارقامها اقرب الى محاكاة اقتصادية دقيقة مستندة الى احصاءات، وأن تأخذ بعين الاعتبار ان التقييم يجب ان يكون قريباً من الارقام ومطابقاً قدر الامكان للاهداف والتوقعات، بهدف تحقيق الشفافية وتحفيز الخدمات الضريبية واضفاء المصداقية والثقة»، مشدداً على أن «ذلك يساعد على تحفيز الالتزام الضريبي وتأمين الخدمات العامة المقابلة، وزيادة الواردات وتحفيز الاستثمارات والنمو الاقتصادي وصولاً الى تأمين العدالة الضريبية والاجتماعية، والانصهار الوطني الحقيقي المبني على فكر ومبدأ المواطنة».