محمد علي مقلد

"الشيوعي" وبناء الدولة

تزامن التحضير للمؤتمر السادس للحزب الشيوعي مع إقرار اتفاق الطائف. العودة إلى الوطنية اللبنانية هي جوهر وثيقة المؤتمر وفكرتها الأساس. هذا هو معنى زيارة جورج حاوي لسمير جعجع في غدراس، ومعنى الاحتفال في «فوار انطلياس» ومعنى المصالحة الوطنية كبند من بنود برنامج الحزب. أما اتفاق الطائف فأهم نتائجه وقف الحرب الأهلية.

لا قيادة الحزب بعد المؤتمر التزمت بروح الوثيقة، ولا المعنيون باتفاق الطائف التزموا بتطبيقه. طغت القضايا الاجتماعية والحياتية الناجمة عن انهيار سعر العملة الوطنية وقضية إعادة الإعمار على القضية السياسية، وتولى النظام السوري الإشراف على إعادة بناء الدولة على غير الأسس الواردة في اتفاق الطائف، فطغى الصراع العربي - الإسرائيلي ودور المقاومة في تحرير الأرض على حلّ الجوانب الداخلية من الأزمة.

أتيح لي إدراج مشروع الدولة في وثائق الحزب ثلاث مرات. الأولى بالتسلل، حين توليت صياغة نص باسم قيادة الجنوب مهمته تحصين القاعدة ضد شرذمة أخذت بوادرها تظهر في صفوف القيادة. تمّ إقراره وأخذت قيادة الحزب المركزية على عاتقها طباعته، ليظهر إلى النور في كراس من القطع الصغير بعنوان على غلافه: منطقة الجنوب. وثيقة للنقاش. في سبيل قيام تيار وطني ديمقراطي في الجنوب يسهم في إعادة بناء الوطن والدّولة.

انتبهت القيادة المركزية بعد صدور النص إلى أنّها باركت نشره مع أنّه يتعارض مع توجهاتها، فقررت التراجع عن الموافقة عليه ولم تعد متحمسة لتوزيعه، بسبب مخالفته قائمة الأولويات المعتمدة.

الثانية بشكل صريح خلال التحضير للمؤتمر الثامن. وافقت القيادة على جعل موضوع الدولة في قائمة الأولويات بعد تصنيفه كمهمة سياسية لا كمهمة وطنية. لكن الموافقة ظلت «لفظية» وظلت فكرة الدولة على هامش اهتماماتها.

في المؤتمر التاسع انفجرت أزمة القيادة فتشكلت معارضة حزبية أخذت على عاتقها صياغة مشروع وثيقة، توليت أنا صياغة القسم السياسي منها، واخترت له عنواناً من شجرة العائلة ذاتها، «في سبيل بناء الوطن والدولة»، ولم يحظ النص بفرصة للنشر لأنّ المعارضة توقفت في منتصف الطريق.

الثالثة بالاتفاق مع الأمين العام الذي تعهّد بطباعة وتوزيع نص معد لتحصين الحزب ضد الانشقاق، لكن القيادة رفضت تسديد تكاليف الطباعة وتوزيع النص الذي حمل عنوان، اليسار بين الإنقاذ والأنقاض. حافظت على النصين، الأول والثاني، في أرشيفي وقررت الإفراج عنهما ليتبين لمن يطلع عليهما أن فكرة الدولة مطروحة فيهما بعموميات اختصرتها بالعبارة التالية: دولة القانون والمؤسسات والكفاءة وتكافؤ الفرص والفصل بين السلطات والديمقراطية وتداول السلطة. أما الثالث فقد طبعته على نفقتي وتوليت توزيعه.

فكرة الدولة لم تكن ابتكاراً أو اكتشافاً غير مسبوق، بل هي استعادة لما تناوله سياسيون وفلاسفة منذ أكثر من قرنين. غير أنّ أهميتهما تكمن في توقيت طرحها. ذلك أنّها بدت في تلك الظروف ضرباً من المغامرة أو سباحة عكس التيار، حيث الأولويات لدى القوى السياسية وأحزاب السلطة وأحزاب المعارضة، ومن بينها الحزب الشيوعي، في مكان آخر.

غير أنّ الفكرة كانت على موعد مع انفجار ثورة 17 تشرين لتنضج وتتحول إلى لازمة في بيانات قوى الثورة بالعموميات ذاتها، وبغياب التفاصيل حيث تكمن الشياطين.

سأنشر الجانب السياسي الذي توليت صياغته في النصين وأدعو المهتمين إلى تجاوز العموميات والتدقيق في مصطلحات خارطة طريق، والأخذ بالاعتبار أن إعادة بناء الدولة لن يتم إلا بفعل ثورة تحت سقف الدستور، وأن قانون الانتخاب هو المدخل للإصلاح ولإعادة تشكيل السلطة.