في الولاية الثالثة له على رأس «التيار الوطني الحر»، صار بإمكان النائب جبران باسيل أن يحيل مؤسس «التيار»، الرئيس السابق للجمهورية، العماد ميشال عون إلى التقاعد السياسي ليتولّى هو القيادة مباشرة. في احتفال التنصيب الثالث الذي أقامه في مقر «التيار» في 17 أيلول الحالي، كان باسيل صريحاً ومباشراً في الإعلان عن أنّه بات هو القائد، وأنه تسلّم الشعلة، وأنّ كل المعارضين له سلّموا بالنتيجة... واستسلموا.
تدرّج رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل في صعود سلّم الإمساك بمفاصل «التيار»، وعَبَر مراحل ثلاثاً متلاحقة عند استحقاق الإنتخابات الحزبية الداخلية التي انتهت كلها إلى التزكية بحكم عدم وجود من يجرؤ على منافسته.
فتوى الجنرال
المرة الأولى كانت في 27 آب 2015. كان مؤسّس «التيار» العماد ميشال عون لا يزال يبحث عن الطريق الذي يوصله إلى قصر بعبدا، في ظل الفراغ المفروض قسراً من حليفه «حزب الله»، وكان يريد أن يتنحّى عن رئاسة «التيار» ليتفرغ لشؤون رئاسة الجمهورية، على أساس أنّ هموم الرئاسة قد تشغله عن متابعة شؤون حزبه وتياره. ولذلك اختار أن يكون خلفه صهره جبران باسيل الذي بدأ مسيرة الصعود في «التيار» منذ زواجه من شانتال ابنة العماد عون عام 1999.
15 عاماً كانت كافية لكي يتصدّر باسيل المشهد السياسي العوني. خلال هذه المرحلة كانت هناك أسماء كثيرة ومواقع داخل التيار ولكنها أخذت تختفي، أو تُجبَر على الإختفاء تباعاً، حتى لا يبقى في الميدان إلا باسيل. هكذا أفتى عون في آب 2015 بأنّ باسيل هو خلفه في رئاسة «التيار»، وأمر كل الطامحين بالإنسحاب من المعركة التي كان ابن اخته النائب ألان عون قد استعدّ لها، وأعلن أهليته لخوضها، قبل أن يتنازل وينزِل تحت رغبة العماد عون وينسحب.
المرة الثانية حصلت التزكية في أيلول 2019 وكان عون صار رئيساً للجمهورية. كان يريد أن تكون هذه التزكية جسر عبور يجتازه باسيل إلى رئاسة الجمهورية. منذ انتخابه رئيساً في 31 تشرين الأول 2016، أعلن عون أنّ باسيل هو الحصان الأقوى في السباق إلى الرئاسة. ولكن الرياح جرت بما لم تشتهِهِ سفن عون وباسيل. بعد أقلّ من شهر على تجديد ثقة عون بباسيل، بدأت انتفاضة 17 تشرين التي أجهضت عهد عون الرئاسي، وكشفت عيوبه، وأسقطت كل النظريات والأوهام التي كان يختبئ خلفها، وضربت صورة باسيل والتيار في الشارع.
حاول باسيل أن يعبر أولاً إلى المجلس النيابي، ولكن الفشل كان نصيبه مرتين عام 2005، ثم عام 2009، لينجح في التجربة الثالثة عام 2018 بعد اعتماد قانون الإنتخابات الجديد عام 2017، على عهد عمه، والذي كان من «إنجازات» تفاهم معراب الذي أوصل عون إلى قصر بعبدا قبل أن ينقلب عليه باسيل اللاهث وراء وراثة عمه في هذا القصر كما ورثه في رئاسة التيار.
التزكية الثالثة
المرة الثالثة فاز باسيل بالتزكية أيضاً في 10 أيلول الحالي عندما لم يجرؤ أحد من «التيار» على الترشح ضدّه. خلال ثمانية أعوام من رئاسته للتيار، وبعد ستة أعوام من لعبه دور الوصي على عهد عمه الرئيس عون، نجح باسيل في القضاء على مراكز القوى، أو على من كان يمكن تسميتهم بـ»الأقوياء» داخل «التيار».
الجولة الأخيرة التي خاضها باسيل مع هؤلاء كانت في جلسة انتخابات رئاسة الجمهورية في 14 حزيران الماضي عندما أعلن عدد من نواب «التيار»، ألان عون وابراهيم كنعان والياس بو صعب وسيمون أبي رميا وأسعد درغام، معارضتهم قرار باسيل التصويت لمرشح المعارضة الدكتور جهاد أزعور. وضع باسيل كل ثقله في هذه المواجهة واتّهم «حزب الله» بالتدخل فيها. ولكنّه استطاع بفضل تدخل عون أن يجتاز الإعتراض ويُجهِز عليه. لا هو أعلن اسماء النواب الذين لم يلتزموا قرار القيادة الحزبية، ولا الذين لم يلتزموا تجرأوا على الإعلان عن أنفسهم. بدأت مرحلة من التعايش مع الوضع بانتظار أن يقرّر باسيل التوقيت المناسب لإخراج من يريد إخراجه من التيار.
نائب خائف من باسيل
أحد هؤلاء النواب مثلاً لم يُخفِ في مجالس خاصة حذره الدائم من باسيل. اعتبر أنّ همّ باسيل صار أن يواجه المعترضين وأن يلاحقهم ويتجسّس عليهم. لا يعرف هذا النائب إذا كان المكلفون حمايته في بيته أم مرافقته يعملون لحمايته أم للتجسّس عليه. حتى أنّه ألغى نشاطات ولقاءات كثيرة كان يقوم بها حتى لا تُفسَّر بأنّها موجّهة ضدّ باسيل، وبعضها كان يتعلّق بزيارات يقوم بها ليلاً إلى بكركي في مراحل سبقت الإعلان عن أسماء مرشحين للرئاسة وقت التقاطع على إسم جهاد أزعور. هذا النائب بعد النتائج التي انتهت إليها جلسة 14 حزيران، نقل إلى معارضين تقاطعوا مع باسيل ما مفاده «لا تفرحوا بهذا التقاطع. باسيل سيترككم وقد ترككم بعد انتهاء الجلسة. لا تراهنوا عليه وعلى صدقه. لأنّه أراد أن يستخدم هذا التقاطع لتقوية أوراق تفاوضه مع «حزب الله». لأنّه لا يرى غير نفسه مرشحاً للرئاسة. ولذلك لم يقبل بأن يكون هناك أيّ مرشح غيره من داخل «التيار». باسيل لا يرى غير نفسه ولا يمكن أن يقبل بأي شخصية من «التيار» تنافسه في «التيار» فكيف يمكن أن يقبل بأن يكون هناك مرشح غيره من «التيار» للرئاسة»؟
عون في ظل باسيل
منذ خروجه من قصر بعبدا، بدا واضحاً كيف أنّ باسيل يمسك بيد الرئيس الأسبق ميشال عون كما كان يمسك بها وبتوقيعه خلال الأعوام الستة التي أمضاها في القصر الجمهوري، وكأنّ عهده لم يكن إلا تمهيدا لعهد باسيل. الأعوام الثمانية التي أمضاها باسيل في رئاسة التيار كانت كافية لكي يقضي على خصومه داخل التيار مستظلاً ما تبقى من هيبة العماد عون. في خطواته المتثاقلة نزولا إلى الكرسي الذي جلس عليه في احتفال التنصيب، بدا عون وكأنّه بات يحتاج إلى من يسنده ويرعاه. وبدا كأنّه صار يعيش في ظلّ باسيل. في أسواق البترون القديمة، كان باسيل هو من يقود السيارة الكهربائية الصغيرة التي أجلس فيها عون، وظهر كأنّه يقوده في مسيرة تقاعده، ولكن الظاهر أنّ عون يفعل كل ذلك بإرادته. نفض يديه من كل من اعترض على قراره ترئيس باسيل وتزكيته حتى داخل العائلة الصغيرة.
أجمل المعارك الباسيلية
انتظر باسيل كل هذه السنوات ليعلن في احتفال 17 أيلول الحالي تولّيه القيادة الحزبية. في هذا الإحتفال الذي غاب عنه النواب المعترضون، ألان عون وابراهيم كنعان وسيمون أبي رميا والياس بو صعب، وآخرون، أعلن أولاً النصر على معارضيه. قال: «فتحنا باب الترشيح وقدّمنا للجميع الفرصة بالتساوي، لكن رغم الدعوات والتشجيع العلني منّي ومن غيري، لا أحد استفاد من الفرصة وترشّح. هذا يعني تسليماً مسبقاً بالنتيجة المعروفة، وأنّ لا أحد عنده الاستعداد لخوض معركة انتخابية محسومة شعبياً. بهذا المعنى تكون التزكية ديمقراطية بنتائج حاسمة، وتكون أجمل المعارك هي التي تربحها من دون أن تخوضها».
أضاف باسيل معلنا «تنحية» عون وبدء مساره الخاص: «هذا معنى التزكية للمرّة الثالثة، لأن التيّارالذي عنده حريّة الخيار، حدّد خياره... وهو ثقة بمساري وبخياراتي التياريّة والوطنية ودعوة لي لمواصلة المسار نفسه. وأنا أجدّد اليوم التزامي نفسه أمامكم من دون أي تراجع أو تنازل أو تعب. وإذا كان لأحد رأي مختلف، حقه بالاختلاف أو الاعتراض مقدّس، ولكن ضمن بيت التيّار وآليّاته، لا بالصالونات ولا بالإعلام. وعندما يصدر القرار على الجميع الالتزام به، ومن لا يلتزم يضع نفسه خارج النظام وتحت المساءلة والمحاسبة وصولاً إلى الخروج من التيّار. هذه حال الأحزاب وكلفة الانتساب لها... لا أحد مجبر، التيار نعطيه وليس فقط نأخد منه. وأنا على رأس من يلتزم بنظام تيّارنا، وأنا المثل، وحتى لو أن أموراً كثيرة لا تعجبني».
باسيل ختم متوجهاً الى عون: «جنرال، كل مرة أقف امامك اشعر بهيبة الأمانة التي سلمتني اياها عام 2015، وبفخر اقول اني حملتها من بعدك».
باسيل يتحدث عن «حمل الأمانة من بعد الجنرال عون»، وعن «مساري وخياراتي» وعن حسم المعركة ضد معارضيه وتهديدهم بفرض الطاعة أو بالطرد. اختار باسيل معاونيه في قيادته الجديدة من الموالين شخصيا له، مستهدفاً بعض معارضيه الذين لم يُظهِروا أي قدرة على الإعتراض الحقيقي فخسروا المواجهة. وربما وجدوا أنفسهم بعد وقت قليل خارج التيار ومجلس النواب بإرادتهم أو بإرادة باسيل الحاكم بأمره في التيار.