هاورد فرانش

التجسّس ليس مسألة خطرة

22 أيلول 2023

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

السفينة الحربية الصينية التي اعترضت طريق المدمرة أمريكية في مضيق تايوان

عندما عبّر المسؤولون الأميركيون عن امتعاضهم، خلال حوار شانغريلا السنوي في سنغافورة، في وقتٍ سابق من السنة، لأن سفينة بحرية صينية أعاقت مسار مدمّرة أميركية في المياه الدولية أثناء مرورها بمضيق تايوان، طرح وزير الدفاع الصيني رداً جاهزاً حول أفضل طريقة لتجنب هذا النوع من المخاطر مستقبلاً. قال الجنرال لي شانغفو: «يطلب الصينيون من الآخرين دوماً أن يهتموا بشؤونهم الخاصة، وبسفنهم وطائراتهم المقاتلة، ومجالهم الجوي، ومياههم الإقليمية. إذا تحقّق ذلك، لن تقع أي مشاكل مستقبلية على الأرجح».

لطالما استعملت الولايات المتحدة التعريف النموذجي والمتّفق عليه دولياً لمعنى «المرور البريء» بهدف تبرير إرسال السفن الحربية عبر المياه الإقليمية الخاصة بعدد من البلدان الأخرى، ما يعني في هذه الحالة نشر دوريات في البحار القريبة من الساحل الصيني. ينطبق المبدأ نفسه على الطائرات العسكرية الأميركية التي تحلّق بالقرب من الصين، في المجال الجوي الدولي.

من وجهة نظر الصين التي اكتسبت في السنوات الأخيرة وسائل أكثر إبهاراً للتصدي للآخرين عبر أسطول بحري قوي وقوة جوية متطورة وخاصة بها، يبدو الموقف الأميركي مرادفاً لما تعتبره بكين «هيمنة على الملاحة»، ما يعني الاستفادة القصوى من القواعد الدولية التي نشأت عموماً كي تتماشى مع التقاليد القانونية الغربية وتم إقرارها خلال حقبة طويلة من الهيمنة الغربية التي لم تشهد تحديات كبرى إلا في حالات نادرة.

لكن تبدو الظروف أكثر تعقيداً عند مراقبتها عن كثب. في المقام الأول، صادقت الصين على قوانين بحرية بدأت تشتكي منها الآن، بينما امتنعت الولايات المتحدة في المقابل عن الالتزام بها.

كذلك، تتبنى الصين دوماً التحركات التي تعترض عليها في أي مسافة قريبة من سواحلها. لا تحصد معظم تلك التحركات اهتماماً دولياً كبيراً، بما في ذلك إرسال سفن حربية نحو مياه متنازع عليها في محيط جزر سينكاكو التي تطالب بها اليابان أيضاً، أو إطلاق صواريخ بالستية نحو المياه التي تشكّل جزءاً من المنطقة الاقتصادية الخالصة في ذلك البلد. في الوقت نفسه، تعقبت القوات البحرية الصينية سفن البحرية الأميركية وصولاً إلى البحار القريبة من أوكيناوا في اليابان، حيث ظهرت غواصة صينية لم يرصدها أحد بالقرب من السفن الحربية الأميركية خلال تدريبات حصلت في تلك المنطقة لمجرّد أن تثبت الصين قدرتها على الانتشار في تلك المساحات. استعملت السفن الحربية الصينية أيضاً حقها بالمرور البريء بالقرب من السواحل الأميركية.

بالنسبة إلى الأميركيين، وصلت لعبة الظل هذه إلى ديارهم بسبب حدثَين جديدَين. يبدو الحدث الأول متهوراً أو غير مدروس، وقد شمل العبور في المجال الجوي القاري للولايات المتحدة من الغرب إلى الشرق عبر منطاد صيني قيل إنه مزوّد بمعدات لالتقاط إشارات إلكترونية معقدة. ألقى أحد الكوميديين نكتة مناسبة في المرحلة اللاحقة مفادها أن الصينيين كانوا يستطيعون طلاء المنطاد باللون الأزرق على الأقل كي يختلط مع لون السماء. أدت تلك الحادثة إلى انتكاسة في العلاقات الأميركية الصينية وتراجعها بمعدل ستة أشهر على الأقل، ما دفع وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إلى تأجيل زيارته الرسمية الأولى إلى بكين في مرحلة كانت تتطلب أعلى درجات التواصل بين البلدين. من باب الإنصاف، يجب الاعتراف بأن رد السياسيين الأميركيين ووسائل الإعلام الأميركية على ما حصل كان شائكاً، علماً أن هذه الأوساط تستعمل الصين أصلاً كفزاعة ومادة دسمة تناسب أجندتها. لكن يجب ألا يظن أحد أن المشكلة أحادية الجانب، إذ يطغى هذا الواقع على الصين أيضاً.

قد يتفاجأ القراء حين يعرفون أن الحدث المؤثر الثاني كان إيجابياً، وهو يتعلق بانتشار تقارير في الأسبوع الماضي مفادها أن الصين تُخطط لإنشاء قاعدة استخبارية كبرى في كوبا، أو بدأت بتشغيلها هناك أصلاً. حرصت التقارير الإخبارية منذ أزمة الصواريخ بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي في العام 1962 على تذكير الجميع بأن هذه الجزيرة تقع على بُعد 90 ميلاً تقريباً من فلوريدا. وفي أحدث رد على هذه المعلومة، سعت إدارة جو بايدن إلى تهدئة استياء السياسيين المتوقّع حين أعلنت أن الجهود الصينية الرامية إلى جمع المعلومات الاستخبارية على مقربة من السواحل الأميركية أصبحت قيد التنفيذ منذ فترة وتعرف بها واشنطن منذ العام 2019 على الأقل.

تحمل هذه التطورات كلها جانباً إيجابياً: سيستفيد الأميركيون والصينيون معاً حين يتخلى الجميع عن الادعاء القائل إن طرفاً واحداً دون سواه (بحسب ولاءات كل معسكر) يجمع إشارات إلكترونية وأنواعاً أخرى من المعلومات عن الطرف الآخر بطريقة شخصية وقريبة من البلد المنافِس. من الواضح أن الوزير الصيني لي شانغفو أخطأ في تحليل الظروف. في خضم أي منافسة بين القوى العظمى، لا يمكن مطالبة أحد بالاهتمام بشؤونه الخاصة. لم يسبق أن طبّق أي فريق هذا المبدأ وتحمل الفرضيات التي تتوقع حصول ذلك مخاطر بارزة.

طالما تمتنع الصين عن نشر أسلحة هجومية في كوبا، يُفترض أن يُعتبر وجود مركز صيني لاعتراض الاتصالات في الجزيرة تطوراً حميداً، مثلما ترغب الولايات المتحدة في ألا تستاء الصين من إبحار السفن الأميركية في أي نقطة من المياه الدولية أو استفادتها من القواعد المتساهلة التي تحيط بحق المرور البريء. يسود طبعاً منطق تفكير مبني على شريعة الغاب في هذا المجال، ما يعني أن كل طرف يدفع ثمن أفعاله. لكن يمكن مقاربة الأمور بطريقة أكثر عمقاً، ما يضمن بذل جهود مضاعفة لضمان سلامة جميع الأطراف المعنية.

يجب أن تضاعف الولايات المتحدة والصين مساعيهما لتنظيم علاقتهما بطرقٍ تمنع التطورات المفاجئة وتُضعِف احتمال اندلاع الصراعات العنيفة. قد تكون مصادقة مجلس الشيوخ الأميركي على اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار نقطة انطلاق إيجابية، ما يثبت في الحد الأدنى أن واشنطن لا تتوقع من بكين أن تطبّق القواعد التي لم تلتزم بها الولايات المتحدة رسمياً.

في ظل المناخ السائد في واشنطن راهناً، حيث تنتشر المشاعر العدائية والشكوك تجاه الصين بسهولة، يُفترض ألا يتوقع أحد تغيّر الوضع. لكن توحي الظروف العامة بأن هذه التطورات تبقى بسيطة وأولية. تشهد بكين مناخاً عدائياً بالقدر نفسه في الوقت الراهن، ما يُصعّب توقّع الأحداث اللاحقة. لكن لا يعني ذلك تأجيل الجهود الرامية إلى تحقيق هذه الأهداف أو التخلي عنها بالكامل.

في المقام الأول، يجب أن يفهم البلدان حقيقة التطورات الحاصلة والمغزى من أي انتشار مستقبلي للأسلحة النووية الجديدة. ترددت الصين في اتخاذ هذا النوع من الخطوات لسبب بنيوي واضح: لا تزال الولايات المتحدة تملك ترسانة أكبر بكثير من القنابل الهيدروجينية الدقيقة والقابلة للتسليم. لكن من مصلحة الطرفَين أن يعترفا بأنهما لا يستطيعان استعمال هذه الأنظمة خلال الحروب بطريقة عملية، نظراً إلى حجم الدمار الذي تستطيع إحداثه. يُفترض أن يدفع هذا الواقع بالبلدين إلى الاتفاق على تخفيض مخزونهما بطريقة مدروسة، فضلاً عن تحديد القواعد والحدود المشتركة التي تحكم أنظمة التسليم في كل بلد.

بما أن الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة تمكّنا من التواصل بطريقة مثمرة للحد من الأسلحة النووية، مع أنهما كانا من أشرس الخصوم واقتربا من الحرب أكثر من واشنطن وبكين في أي مرحلة من آخر سبعة عقود، يُفترض أن يثق الطرفان بما يستطيعان تحقيقه معاً.

تبرز أيضاً مجالات أخرى تحتاج إلى حلول عاجلة ويثبت فيها البلدان الأقوى في العالم وأكبر اقتصادَين فيه قدرتهما التقنية والاقتصادية على الابتكار في الشؤون العسكرية بدرجة قد تصبح مكلفة أو حتى كارثية. تشمل تلك المجالات عسكرة الفضاء والذكاء الاصطناعي. حين يخرج السباق عن السيطرة، قد تبدو فكرة أن يهتم كل بلد بشؤونه الخاصة في هذين المجالَين غريبة وساذجة على نحو يائس.

لا مفر من أن تحتدم المنافسة بين الصين والولايات المتحدة في جميع المجالات ومعظم المساحات الجغرافية الممكنة في ظل انحسار الفرق في مستوى القوة بين البلدين. يفرض هذا الوضع على كل طرف ألا يُحدث ضجة كبرى حول أي سلوك استثنائي يقوم به الطرف الآخر، نظراً إلى تقارب جهودهما مع مرور كل سنة جديدة. لتحقيق هذا الهدف، تقضي أفضل طريقة بمتابعة توسيع قائمة القواعد المتفق عليها بين البلدين.


MISS 3