في الإدارة العامة يمكن اكتشاف ما يناقض سلوك ساسة الحكم في القضاء على الدولة وإداراتها. في صفوفها، موظفون أكفياء مخلصون لعملهم رغم التدهور المريع في أوضاعهم المعيشية وتآكل رواتبهم ومخصصاتهم، وهم يقدمون نموذجاً حيث يعملون يصحّ تعميمه على إدارات أخرى تعجّ بموظفين لا يعملون أو بمسؤولين يملأون جيوبهم مالاً قبل أن يتنازلوا ويقوموا بواجبهم في تلبية احتياجات مواطنيهم.
تكفي لمن يحتاج اتمام معاملة في دوائر أساسية أن يقوم بجولة للتعرف على السماسرة ومديريهم، وباعة الطوابع بعشرات أضعاف سعرها الرسمي، وعلى الموظف الذي أضاع ملفاً عقارياً أو رخصة بناء قبل أن يكتشفه فور رؤيته العملة الامبريالية في جارور مكتبه، أو في مظروف محترم غير مقفل، لضرورات الإطلاع.
ليس الأمر مماثلاً في كل المؤسسات. والاتهام ليس موجهاً للجميع. هناك مئات الموظفين الذي يواصلون عملهم بصمتٍ وتفانٍ، ولو أنّ الثلم الأعوج الذي حفره الثيران الكبار يكاد يكتسح كل شيء، ويحوّل الفساد إلى ثقافة اجتماعية عامة ومعمّمة!
تعاونية موظفي الدولة تقدم مثالاً للإدارة النموذجية في زمن الانحلال والانهيار. مديرها العام الدكتور يحيى خميس الذي يتابع شؤون نحو 400 ألف مستفيد من تقديماتها لم يستسلم أمام وقائع السنوات الماضية الصعبة، وبعد الانهيار المريع في قيمة الليرة سعى جاهداً إلى تحسين هذه التقديمات، وموازنتها مع متطلبات الاستشفاء والدواء والطبابة، ونجح في ذلك بدعم المخلصين الذين ما زالوا يؤمنون بقيامة الدولة ونهوض مؤسساتها.
في مكتبه الذي ورثه عن سلفه المدير السابق أنور ضو يحرص المدير النموذجي على متابعة شؤون موظفي إدارته ويستقبل كل المنتسبين والمستفيدين، ويراقب سير تعاطي المستشفيات والأجهزة الصحية المعنية معهم ومدى التزامها بالاتفاقات المعقودة مع التعاونية وتقديماتها.
لا يفارق الموظف المثالي مكتبه الا في جولة على العاملين معه، أو لوداع زواره الكثر من منتسبي المؤسسة وغيرهم من كل الأوساط. وعندما يترك كرسيه للحظات يمكن ملاحظة كيف أن لونها مال إلى لون آخر. لقد استهلك يحيى خميس كرسيه في خدمة الذين كُلِّف بخدمتهم.