د. نبيل خليفة

الشعب الأرمنيّ ومحنة الجغرافيا عبر التاريخ!

29 أيلول 2023

02 : 00

لا يزال عشرات آلاف اللاجئين الأرمن من اقليم ناغورني كاراباخ يتدفقون من الإقليم باتجاه أرمينيا عبر الممر الوحيد بين المنطقتين، ويبلغ عدد الأرمن في الإقليم المعروف رسمياً بجمهورية أرتساخ مئة وعشرين الف نسمة يشكّل الأرمن بينهم 99%، وكانت أرمينيا جزءاً من جمهوريات الاتحاد السوفياتي. وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي سعت أرمينيا للحصول على استقلالها كما سعت ارتساخ للحصول على شكل من أشكال الحكم الذاتي وذلك خوفاً لما كان يسعى له حكام اذربيجان من جعل الإقليم جزءاً من جمهورية اذربيجان الأذرية الاسلامية الشيعية. وظل الأمر عالقاً بين الصراع على المنطقة من جانب الآذريين والأرمن من جانب آخر. وكانت السلطات الروسية تشكّل بيضة القبّان في هذا الصراع، وتمنع الأذريين من السيطرة على الاقليم.

1- ما يحصل اليوم في ارتساخ هو آخر نسخة، وليس الأخيرة، عمّا عاناه ويعانيه الشعب الأرمني في صراعه من أجل الحياة والوجود الحرّ. ذلك أنّ الشعب الأرمني، وهو أحد الشعوب الفاعلة والناهضة في حركة تاريخ الأمم، يشكّل واحدة من أكبر الدياسبورا لشعوب العالم. وهذا عائد إلى مشكلة ارتباطه بالأرض والمصير بحيث يواجه التحدّي فيضطر إلى الهجرة والسفر إلى مختلف انحاء العالم. لذا نجد الشعب الأرمني متواجداً في معظم دول العالم بنسبة مختلفة تعود بالدرجة الأولى إلى اهتمامه بالتجارة والفنون الحرفيّة.

2- هذا الواقع، بل هذا الإشكال، عائد في الدرجة الأولى إلى أسباب جيو- سياسية أي إلى دور الجغرافيا في بلورة الفكر الأرمني بالنسبة للوجود والبقاء والتقدّم وسير الانسان في مجرى التاريخ. ذلك أنّ الجغرافيا تمثّل عادةً الثابت في حين أنّ التاريخ يمثل المتحرّك. وعليه أقام الأرمن على أكثر من شريحة أرضية في آسيا الوسطى وصولاً إلى المتوسط وكان لهم وجود ديني وسياسي جرى شطبه على يد الغزوات والفاتحين ولعل أبرزهم التركمان بحيث نقلت مراكز البطريركيات من كيليكيا (أي سيسيليا) إلى انطلياس في لبنان.

3- ومن صدف التاريخ، أني شرعت في اقامة مقابلة بين الكنيسة المارونية، والكنيسة الأرمنية، وبين الشعبين في محاضرة لي عام 1994 في دير عنايا في اجتماع مجموعة التفكير والعمل. وصودف أن كان في الدير زائر هو البطريرك يوحنا بطرس الثامن عشر كسباريان (بطريرك الأرمن الكاثوليك)، وعندما أنهيت محاضرتي جاء يهنئني ودعاني بعدها لكي أحاضر في مؤتمر بطاركة الشرق الكاثوليك في الربوة عن «مصير المسيحيين في الشرق».

ولفت نظره كلامي عن الساسة الأرمن الذين، داخل الأحزاب، أم خارجها يتخذون دائماً موقف الاصطفاف إلى جانب السلطة من دون الاهتمام بمعرفة موقف هذه السلطة من الكيان السياسي للدولة بحيث تكون هذه المواقف في خط مناهض للقاعدة القائلة: إن الثبات في الجغرافيا هو ربح في التاريخ. ومن هنا الفارق بين الكنيستين المارونية والأرمنية. وذلك أنّ الكنيسة المارونية تعتبر الأرض القاعدة الأساسيّة والصلبة والدائمة لإرساء الكيانيّة الوجودية بأبعادها الروحيّة والفكريّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة. وهو ما لم تشدّد عليه الكنيسة الأرمنية، ولذلك كان الفارق بين الكنيستين والشعبين الوحدانية من جانب، والتفكك من جانب آخر.

4- إن ما يحدث في ارتساخ اليوم، لا يمكن فصله عما حدث ويحدث في مختلف الأصقاع التي تواجد فيها الشعب الأرمني. فلقد سعى هذا الشعب لإقامة علاقات وأحلاف مع دول كبرى كروسيا للوقوف إلى جانبها في زمن المحن. لكن هذا الرهان سقط بتخلي روسيا عن دعم ارتساخ في وجه الهجوم الآذربيجاني عليها. وذلك لاعتبارات جيو- سياسية على صلة بأمرين مهمّين استراتيجيًّا:

أولهما ايجاد خط اتصالات بريّة من خلال انشاء خط ممر بري يمر عبر جنوب أرمينيا. وسيمثّل هذا الممر جسراً برياً بين تركيا واذربيجان ويقطع حدود أرمينيا مع ايران. وكانت أرمينيا قد رفضت في الماضي انشاء مثل هذا الخط. وثانيهما انشاء خط لمرور النفط والغاز بين القوقاز واوروبا.

5- إنّ هذا التحوّل الجوهري في أرمينيا، يفرض واقعاً جديداً داخل الدول المعنية. فرئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان ألقى باللوم على روسيا لعدم دعمها أرمينيا في وجه انتصار الجيش الأذري على أرض كرباخ لكن روسيا ردّت على لسان الناطق باسمها ديمتري بيسكوف، بأنّ بلاده ترفض تحميلها المسؤولية في ما حدث في الإقليم لأنّها قامت بمسؤوليتها ولم تقصّر ابداً. في حين اتهمت وزارة الخارجية الروسية أرمينيا بأنها «رهينة لألعاب الغرب الجيو- سياسية».

هذا مع التذكير بأنّ جمهوريتي أرمينيا واذربيجان قد اشتبكتا عسكرياً في اقليم كراباخ مرتين: من العام 1988 إلى العام 1994 بحصيلة 30 ألف قتيل وفي خريف العام 2020 بحصيلة 6500 قتيل .

6- في الوقت الذي يستمر تدفّق اللاجئين الأرمن من ناغورني كاراباخ إلى الأراضي الأرمنية مع أزمة مرور على الطريق الوحيد المتاح لانتقال السكان الأرمن في الإقليم إلى أرمينيا وهم يعدّون بالآلاف، سعى رئيس الوزراء الآذربيجاني إلهام علييف لأن يطمئن الأرمن الموجودين في أرتساخ، بأن حقوقهم ستكون محفوظة ومصانة اذا ظلوا في هذا الجيب الجغرافي الجبلي والضيّق. وسعى بوجود الرئيس التركي رجب طيب اردوغان الى أن يستفيد من المناسبة وإعادة كتابة التاريخ على أرض جغرافيا كاراباخ والذي ألحق باذربيجان عام 1923 وذلك لإعادة ربط الجغرفيا المقطوعة، واستغلالها لمصلحة تركيا واذربيجان.

إذا راجعنا تاريخ أرمينيا والشعب الأرمني في مراحله المختلفة لتبيّن لنا أنّ جغرافيا هذا الشعب كانت العامل الحاسم في تطوّره وتوسّعه ومن ثم ضموره. وبالرغم من الطاقات البارزة الكامنة في أعماق هذا الشعب فإنّ اصطدامه بالجغرافيا أثّر جذريّاً في دوره عبر التاريخ: في اصطدامه بالقوى الكبرى ولا سيّما الأتراك وفي عدم التزامه بالرمز الجغرافي للكيانيّة الأرمنيّة. من هنا التحوّلات الكبرى في اتساع رقعة الوجود الأرمني ومن ثم ضمورها تحت تأثير الأحداث. ولعلّ الصورة الجغرافية لإقليم ناغورني كاراباخ بما فيها من وديان وجبال تعطي صورة عن تأثير الجغرافيا على تاريخ الأرمن.

(*) باحث في الفكر الجيوسياسي


MISS 3