مصطفى علوش

ديك الحارة

7 تشرين الأول 2023

02 : 00

«في حارتنا ديك يصرخ عند الفجر كشمشون الجبار

يطلق لحيته الحمراء ويقمعنا ليلاً ونهار

يخطب فينا ينشد فينا يجرح فينا فهو الواحد وهو الجبار

في حارتنا ثمة ديك عدواني، فاشيستي نازي الأفكار

سرق السلطة بالدبابة ألقى القبض على الحرية والأحرار

ألغى وطناً ألغى شعباً ألغى لغة ألغى أحداث التاريخ

وألغى ميلاد الأطفال وألغى أسماء الأزهار»

(نزار قباني)

قررت منذ زمن طويل أن أتوقف عن سماع خطاباته المكررة، شكلاً ومضموناً، فهو «يتحدث وينشغل بأمور كثيرة» فيما المضمون واحد. لكنني تحاملت على نفسي لسماعه، عسى أن تكون النوائب والمتغيّرات طوّرت به بعض الشيء، فكان ما يلي.

في البداية، علينا الاعتراف بأنّ حسن نصرالله نجح بشكل منقطع النظير في تطريز الخطاب الديني الإسلامي لدرجة كنت أتمنى لو ينتفع منها خطباء المناسبات والجوامع، من طوائف مختلفة، من المحتوى البياني الإيماني ومن الخشوع والورع أمام عظمة النبوة ومعانيها بين البشر أجمعين. لكن، وحتى في هذا المجال، فالقول يصح بأن «اسمعوا أقوالهم ولا تفعلوا أفعالهم»، فبليغ القول لا يتناسب كما هو واضح مع الفعل، حتى وإن اجتمعت الحشود لتهتف «لبيك، لبيك...» وهم أكثرهم مصدقين مسبقاً لفحوى الخطاب قبل سماعه، حتى وإن نطق كفراً، فكلام الزعيم القائد السيد المُلهم عين الحقيقة المطلقة، مهما بالغ في الشطط والابتعاد عن الواقع.

لكن، ما همّنا من كل ذلك، فكل المناصرين، من كل اتجاه، يتعاملون مع الزعيم بالطريقة ذاتها، ويصدقون إلهامه حتى وإن أتى بسقطات وخيبات عظيمة انتهت إلى كارثة كالتي نحيا فيها، أو بالأحرى نموت بها ومنها. لكن، علينا الاعتراف بأن الزعيم بريء أحياناً، فالحشود مذنبة لكونها تمنعه من أن يكون بشرياً عادياً! فقد يشعر أو يتأثر لكونه ممنوعاً من أن يتصرف كبشري، وممنوعاً من نعمة التوبة وإنسانية الندم ونبل الاعتذار وكرامة التراجع عن الغي...

لكن، يكفي الحديث عن شق الخطاب الديني، ولنعد إلى السياسة. لم يتغير شيء، فحتى في أيام وجود رئيس للجمهورية، بقي نصرالله يتحدث في السياسة كواعظ وموجّه، مفترضاً، إمّا أنّه بالفعل «يعلم بما لا يعلمون»، أو أنّه قارئ في علم الغيب الذي يتجاوز المعطيات العلمية الفعلية، مفترضاً أنّ جوهر الأمور لا علاقة له بنتائجها، فيذهب إلى نسبة النتائج إلى أمور ثانوية طارئة من دون بحث أساس المصائب. ولعله في هذا المجال يعتمد على أنّ معظم السامعين مصدقين مسبقاً لكلامه، أكان حديثاً في الدين أم في الاجتماع أم الاقتصاد، وربما علم الفلك والانشطارات الذرية، طالما أنّ المسألة النووية تدخل أيضاً في اهتماماته الإقليمية.

ما لنا ولكل ذلك، وسأركز على قضية اللجوء أو النزوح السوري، ولا فرق بين التعبيريْن طالما أنّ النتيجة واحدة وهي أعداد الوافدين، وأفق عودتهم المسدود. يقول نصرالله إنّ السبب في النزوح هو انسداد سبل الإعمار في سورية بسبب «قانون قيصر» الذي تفرضه الولايات المتحدة! بالتأكيد، فأنا لا أريد أن أنصّب نفسي للدفاع عن سياسات جلبت لنا الويل والثبور وعظائم الأمور، أكان في فلسطين، في العراق وفي لبنان. لكن الجريمة الكبرى التي ارتكبتها واشنطن كانت يوم أحجم باراك أوباما عن ضرب نظام بشار على خلفية مجزرة الكيماوي، فترك الباب مفتوحاً للبراميل المتفجرة وللميليشيات المذهبية ولميليشيا بوتين ولداعش والنصرة وما يشبهها، ليستمر الموت والدمار، ويستفحل النزوح واللجوء.

ودور حزب نصرالله هنا كان محورياً في تفاقم وتضاعف أعداد النازحين يوم احتل الأراضي السورية المتاخمة لحدودنا الشرقية، وتسبب بأقل تقدير بترانسفير نصف مليون سوري سني منها. وكان بإمكان نصرالله أن يعلن الانسحاب من البيوت والساحات حيث تمت تصفية العشرات على يد حزبه لأسباب مذهبية، وتحت شعارات مقززة. يعني، وبالمباشر جوهر الأمر في تهجير هؤلاء هو احتلال «حزب الله» مدنهم وقراهم. أما عن «قانون قيصر»، فما تسبب باستمراره هو العناد الأسدي المسنود من ولاية الفقيه لإيجاد حل سياسي للقضية السورية، جوهره هو أنّ سلالة الأسد تعتبر سوريا ملكاً عائلياً، وأنّ السكان عبيد الأسد، ولو أراد بشار أن يتفادى تدمير مملكة أبيه، لكان استجاب لنداء الناس بالإصلاح والديموقراطية في بداية الثورة، ولما كان أفلت رعاع التطرف من السجون لتحويل ثورة الناس وآمالهم بالتغيير إلى كابوس يصول ويجول فيه أشباه سرايا الأسد والزينبيون و»حزب الله»، لكن بذقون ممدودة وشوارب حليقة وشعارات وممارسات مستقاة من كتب هولاكو وتيمورلنك، وحتى لا يكون هناك التباس، أنا أتحدث هنا عن داعش والنصرة وما لف لفهما وعلى شاكلتهما.

قد تكون مغرية لمحترفي التهريب عبر البحر دعوة نصرالله إلى ترحيل جماعي في مراكب كبيرة «آمنة»، وقد يكون هناك شراكة ما قائمة مع المهربين من الأساس طالما أن تجارة الممنوعات أصبحت حلالاً لتمويل «المقاومة». وهنا، لمَ لا تأتي بواخر إيران العملاقة التي تنقل السلاح للحوثيين، أو المحروقات لفنزويلا وتأخذ حصتها «الإنسانية» من اللاجئين؟ أو لمَ لا تأتي البوارج الروسية لفعل الشيء ذاته؟ وهل صحيح أنّ القضية تحلها زيارة دولة بين لبنان وسورية، فيعود الجميع بسلاسة وأمان إلى بيوتهم في الغوطة والقصير وحمص؟

لن أزيد على ذلك لضيق المساحة، لكن المؤكد هو أنّ نصرالله يريد فقط تضييع جوهر الأمور في قضية اللاجئين وهو استمرار بشار في انتهاج منطق «سورية المفيدة» المشذبة مذهبياً، ليتمكن «حافظ الحفيد» من وراثتها، وإن على الأطلال. هذا المنطق هو المسؤول عن كارثة المدرسة الحربية الذي جعل من جيش سورية العروبة مجرد ميليشيا للأسد، تابعة كغيرها للولي الفقيه.


MISS 3