مصطفى علوش

عناقيد الغضب الفلسطينية

13 تشرين الأول 2023

02 : 00

«وأعُدّ أضلاعي فيهرب من يدي بردى

وتتركني ضفاف النيل مبتعدة

وأبحثُ عن حدود أصابعي

فأرى العواصمَ كلّها زَبَدَا ...»

(محمود درويش)

لا يوجد في العالم من هو أقدر من الصهاينة على استغلال سطحية الأميركيين وتعاطفهم الإنساني المصطنع وكسلهم في البحث عن جوهر الأمور، الذي يفرض العودة إلى التاريخ القريب والمثبت بالقرائن، بدل الاستناد إلى الأساطير المتخفية وراء قدم الزمن، والاعتماد على البروباغندا التي تمطرهم بها وسائل الإعلام الأميركية حصراً، والمملوكة أصلاً من مصالح مرتبطة بطريقة أو بأخرى باللوبي اليهودي. في كل الأحوال، فإنّ الإحصاءات تؤكد أنّ نصف الأميركيين يعتقدون أنّ قصص العهد القديم حقيقية، وأقل من النصف بقليل يسير حسب البروباغندا، وإن كان لا يعتقد بصحة تلك القصص، وتبقى النخب التي تعرف جوهر الأمور، لكنها تتعامى عنها لمصالح أو لخوفها من الاتهام بمعاداة السامية.

درست الصهيونية الحديثة تلك المعطيات واستغلتها إلى أقصى الحدود، بالتعاون بالطبع مع وكالة الاستخبارات الأميركية. منها مثلاً استخدام عنوان رواية «ستاينبك»، «عناقيد الغضب»، الكلاسيكية الواسعة الشهرة على المستوى الشعبي الأميركي. فأطلقت آلة الحرب اسمها على حرب محض عدوانية على لبنان سنة 1996، فتغاضى الرأي العام الأميركي عن مذبحة قانا المروعة وعن كون إسرائيل كانت يومها تحتل أراضي لبنانية، وكان حق اللبنانيين بالمقاومة مشرّع بكل المواثيق الإنسانية والدولية.

جوهر الأمور الذي لا لبس فيه هو أنّ أسس دولة إسرائيل قامت بشكل كامل على الإرهاب العنيف وعلى تصنيف البشر بشكل شديد العنصرية يعتبر أنّ كل من هو من «الغويم»، أي من هو مولود لأم غير يهودية، بشري من صنف أدنى. وهي الفكرة الأساسية التي استند إليها الفكر النازي لتصفية قوميات وإثنيات من ضمنها اليهود في أوروبا خلال الهولوكوست. وحتى قبيل الحرب العالمية الأولى كان زئيف جبوتنسك، مؤسس «الهاغانا» الذي أصبح لاحقاً جيش الدفاع الإسرائيلي، يعتبر أنّ الحركة الصهيونية يجب أن تتماثل مع فكر الفاشية والنازية في تصرفاتها في فلسطين.

كان «بن غوريون» يتحاشى إصدار أوامر واضحة لضباطه بخصوص إرهاب الفلسطينيين لدفعهم لهجرة بيوتهم وقراهم التي سكنها أجدادهم ورعوا شجر زيتونها لمئات السنين. قال بن غوريون إنّ ضباطه يعرفون ما عليهم فعله. وبعد أن استهجن العالم مذبحة بلدة قبية الفلسطينية التي ارتكبها الضابط أرييل شارون، استدعاه بن غوريون وقال له إن «لا أهمية ما يقوله العالم بل ما نفعله هنا للبقاء في الأرض التي منحها الله لنا».

أريه اسحق، هو أحد كبار مؤرخي الجيش الإسرائيلي، بعد دراسته لوقائع حرب 1948، صرَّح بما يلي في محاضرة له في جامعة «بار إيلان»: «إنّ الوقت قد حان لمواجهة بحور الكذب التي نسجناها. في كل قرية استولينا عليها في حرب الإستقلال قام رجالنا بأعمال يمكن وصفها بجرائم حرب كالقتل العشوائي والمجازر الموصوفة والإغتصاب. بالنسبة للكثير منا كنا نختبئ وراء كذبة أساسها أنّ العرب تركوا أراضيهم استجابة لنداء زعمائهم، وهذه في الواقع مجرد إفتراء! فالسبب الأساسي لهروبهم كان الخوف المبرر، ففي كل قرية احتلها جيش الدفاع، كانت أخبار المذابح واضحة وثابتة، وفي كثير من الأحيان خارج إطار المعركة، فإن كان بعض الزملاء الأكاديميين يرفضون تسمية هذه الأعمال بجرائم حرب، فأنا لا أجد لها اسماً آخر».

ما من عربي عاقل اليوم يريد إنكار حجم الإجرام الذي مورس بحق اليهود على مر التاريخ في أوروبا، ولا يمكن لأي بشري ألا يشعر بالحزن الشديد والعار أمام مشاهد الهولوكوست الذي نفذه النازيون بحق ملايين البشر خلال الحرب العالمية الثانية، لكن المثير للغضب هو أن يتخذ الصهاينة من تلك المأساة رخصة ليمعنوا في الانتقام ممن لا ناقة لهم ولا جمل في ما حصل في أوشفيتز، أو ما مورس بحق اليهود في أوروبا على مر العصور.

رواية عناقيد الغضب تحدثت عن القهر والجشع والاستخفاف بالبشر وحياتهم الذي يتسبب باحتقان الغضب وتفجره بشكل عنيف وأعمى، وهذا بالضبط ما جعل من عناقيد الغضب الفلسطينية تنمو وتتكاثر، بالرغم من كل المحاولات الفلسطينية للتسوية مع الظلم واختلال موازين القوى والإجحاف المفروض من «العالم الحر» على كرامتهم وحريتهم. قبلوا بحدود الـ 67 والأرض مقابل السلام، ومن ثم بتسوية أوسلو، بعدما تخلى عنهم حتى إخوتهم، لا بل طعنوهم في ظهورهم وهجروهم من مهاجرهم عدة مرات.

لا يمكن هنا أن يتقبل المرء مشاهد الموت العشوائي الذي نفذه الغضب الفلسطيني في محيط غزة المحاصرة منذ سبع عشرة سنة. لكن الغضب هذا أساسه الإذلال المتعمد على الحواجز الإسرائيلية في محاولة لتجريد العامل الساعي إلى لقمة عيشه من إنسانيته. لكن العالم اليوم يقوم بجريمة جديدة بإعطاء الرخصة للقتل العشوائي المنهمر على غزة من دون تفريق، لمجرد أنّ نتنياهو غاضب ويريد أن يرد اعتباره ويعيد الهيبة للبلطجي الصهيوني.

لقد أثبت التاريخ أن لا أحد منيع مهما رفع أسواره وطغى وتجبر، ومثل ما حصل في غزة ساطع. كما أنّ دوامة العنف ستستدرج غضباً جديداً ينفجر عناقيد غضب عاجلاً أم آجلاً. الطريقة الوحيدة لكسر هذه الحلقة هي بالحلول السياسية التي تطفئ شعلة الغضب وتعيد للغاضب إنسانيته الساعية إلى السلم والاستقرار.

منذ سنوات، تابعت لقاءً أجرته مجموعة اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة مع صحافي إسرائيلي معارض للسياسات الصهيونية العنصرية، ومؤيد للتسوية التي تضمن للفلسطينيين واليهود العيش بسلام. قال الصحافي لأعضاء اللوبي إنهم هم مسؤولون عن تدمير مستقبل اليهود في إسرائيل لأنهم يشجعونهم على المضي بسياسة الاستيطان والاستيلاء الإجرامي على الأرض والإمعان في قهر وإذلال واستفزاز الفلسطينيين، وتوقع أنّ إسرائيل ستفنى في يوم قريب بسبب ذلك.


MISS 3