عيسى مخلوف

وقفة من باريس

الحرب والسياسة والأدب

14 تشرين الأول 2023

02 : 00

تفصيل من لوحة «غيرنيكا» لبيكاسو

ماذا يستطيع الأدب أن يفعل حيال أعمال العنف والحروب؟ نطرح هذا السؤال كلّما اسوَدَّ الأفق حولنا، وهو مُسوَدّ باستمرار، لأنّ الحروب مستمرّة، ومستمرّ أيضاً نزيف الصراع العربي الإسرائيلي منذ أكثر من سبعين عاماً، وما يجري الآن هو أحد فصوله المأسويّة المتراكمة عبر الزمن.

المثال الأكبر الذي يمرّ ببالنا الآن، في الظروف الخطيرة الراهنة، هو الشاعر محمود درويش وموقفه من العلاقة بين السياسة والشعر. في العام 2000، صدر عن منشورات «غاليمار» الفرنسية، ضمن سلسلتها الشعرية، كتاب له يتضمّن مختارات شعرية كُتبت بين 1966 و1999، ونقلها إلى اللغة الفرنسيّة المؤرّخ والباحث الفلسطيني الياس صنبر. يختصر هذا الكتاب ملامح مهمّة من تجربة محمود درويش. من قصائد شديدة الالتصاق بالهمّ الفلسطيني إلى قصائد المرحلة الأخيرة «أحد عشر كوكباً» و»خطبة الهندي الأحمر» و»وردٌ أقلّ» وغيرها من القصائد والدواوين التي تحفل بهاجس جمالي وإنساني يتجاوز المكان والزمان. وهذا ما حرص على التأكيد عليه الشاعر الفلسطيني في اللقاءات الإعلاميّة التي جرت معه في تلك المناسبة وفي مناسبات أخرى.

بالطريقة ذاتها، عبّر درويش عن موقفه من العلاقة بين الشعر والأحداث الآنيَّة، عندما صدرت الترجمة الفرنسية لمجموعته الشعرية «سرير الغريبة» (عن دار «آكت سود»)، وقد تزامنت مع أحداث دامية في فلسطين، فتحدّث يومذاك عن الكتاب ومواضيعه الجماليّة. في الوقت نفسه، كان صدور هذا الكتاب فرصة جديدة لإبلاغ الفرنسيين، والغرب عموماً، رسالة شعبه إلى العالم، لكن كان واضحاً رأيه في الفصل بين الشعر والسياسة. وفي ردّه على أسئلة صحيفة «لوفيغارو» الفرنسيّة، قال: «أنا لا أقبل أن تتغيّر رؤيتي الشعرية بتأثير من العوائق السياسية. أريد أن أرى في الوردة وردة لا لون الدم».

مع ذلك، أثارت قضيّة تدريس قصائد محمود درويش للطلبة اليهود ضجّة كبيرة إن دلّت على شيء فإنّما تدلّ، بحسب تعبير الشاعر، على أنّ «العقليّة الإسرائيليّة غير ناضجة بعد لفهم الآخر بشكل عميق». ومن المعروف أنّ حملات كثيرة شُنَّت في إسرائيل ضدّ درويش وشعره. ونُذكِّر هنا بـِ «المواجهة الأدبية الساخنة» التي حدثت يوم جاء أدباء عالميّون للتضامن مع الفلسطينيين الخاضعين للاحتلال الإسرائيلي، وكان من بين هؤلاء الكاتب النيجيري الحاصل على جائزة نوبل للآداب وول سوينكا، والأديب الفرنسي كريستيان سالمون، والكاتب الإسباني خوان غويتسولو، والأديب البرتغالي الحائز جائزة نوبل للآداب جوزيه ساراماغو الذي صرّح حينذاك قائلاً: «يجب أن نقرع جميع الأجراس في العالم لنقول إنّ ما يحدث في فلسطين هو جريمة يمكن وقفها ويمكننا مقارنتها مع ما جرى في أُشويتز»، المعتقل النازي في بولندا. أما وول سوينكا فرأى أنّ «اليأس والإحباط يولّدان التطرُّف، وهذا ما يحدث مقابل ما تمارسه إسرائيل من خلال قوّتها وتفوّقها العسكريين»...

هكذا عبّرت هذه العيّنة من الكتّاب الكبار عن موقفها السياسيّ الواضح، وبعض هؤلاء الكتّاب، ومنهم ساراماغو، أشاروا في كتاباتهم إلى الفعل السياسي وانعكاساته على البشر في العالم أجمع. وهذا ما يكشف أنّ ثمّة وجوهاً أخرى للعلاقة بين الأدب والسياسة. نذكر، في هذا الصدد، أدباء شهدوا حروب عصرهم، وعبّروا عنها، بشكل أو بآخر، في مؤلفاتهم الأدبية، ومنهم، على سبيل المثال، إرنست همنغواي، جون ستاينبيك، ألبير كامو، جورج أورويل، لوي فردينان سيلين وبابلو نيرودا... منذ الحرب العالمية الأولى حتى اليوم، طالعتنا ردود فعل عدد من الأدباء الذين شهدوا حروب عصرهم وعبّروا عنها بأساليب مختلفة.

مع الحربين العالميتين اللتين تسبّبتا في سقوط عشرات ملايين الضحايا، وتعطيل حدود أوروبا بشكل عميق، بدا أنّ القرن العشرين هو قرن الحروب الأعنف في التاريخ، لا سيّما مع استعمال السلاح النووي الذي فتح باب الرعب على مصراعيه، واحتمال فناء الجنس البشري.

لقد ردّد الأدب صدى هذا القرن المضطرب وانخرط الكثير من الكتّاب، مسلّحين بأقلامهم، في الدفاع عن القيم التي آمنوا بها والتي وجدت نفسها مهدّدة. بعض هؤلاء حملوا السلاح، وكانوا، بالإضافة إلى كونهم شهوداً، ممثّلين وضحايا، مناهضين للحرب وعنفها وقسوتها، وبعضهم الآخر فصل، بصورة تامّة، بين السياسة والأدب، كما فعل محمود درويش بعدما كان قد أطلق، في مطلع تجربته الشعريّة، قصيدته الشهيرة: «سجِّل أنا عربيّ».


MISS 3