قد يكون من اللازم والمفيد أن نتساءل عما آل إليه فكر طه حسين في الذكرى الخمسين لرحيله.
ذلك أن مراجعات كهذه قد لا تميز بين المكانة، من جهة، وبين الأثر الفكري، من جهة ثانية.
فمن يتابع كتباً ودراسات ومقالات متأخرة عنه قد يصيبه الاعتقاد بأنه كان لهذا الفكر أثره الثابت والبعيد والممتد.
وإذا كان هذا الاعتراف أو الإقرار متأخراً، فإنه لا يتناول بالضرورة مصير «رهانات» طه حسين الفكرية في الثقافة المصرية والعربية. فلو أراد المتابع أن يتساءل عما انتهت إليه انشغالاته وتوجهاته ومقترحاته الأساسية لما تحقق بالضرورة من بلوغها ورسوخها في أساسيات الفكر الساري.
سأكتفي بالإشارة (المقتضبة بالطبع) إلى مسألتين: الأولى تتناول «قضية» الشعر الجاهلي، والشك فيه، وفي كونه منحولاً. ما ساقَه حسين في كتابه، الأول ثم الثاني، سبق أن ساقَه مستشرقون، ولا سيما ألمان، ولا يشكل كتابه إضافة علمية أكيدة في هذا المجال، الذي لا يزال مفتوحاً وموضوع بحث حتى أيامنا هذه. أما حديث المثقفين عن أن منهج الكتاب يقع في «الشك الديكارتي»، المنهجي، فهو غير مناسب كلياً. لأن ما قام به حسين، إثر مساعي مستشرقين، ولا سيما نولدكه ومرجليوث، قام على «التحقق النقدي» مما وصل من الثقافة القديمة. اللافت، في هذه المسألة، هو أن الدرس العربي لم يتابع تماماً «شكوك» حسين، بل بات يقيم حصناً حول هذا الماضي، قوامه الثبات في الدفاع عن ثقافة «ما ورد»، وكما ورد.
أما المسألة الثانية فتتناول كتابه الأهم، «مستقبل الثقافة في مصر»، ما هو مدعاة للسؤال: ماذا عما رسمَه مستقبلاً ثقافياً لمصر؟ الأكيد أن تأكيدات كتابه تساقطت في... الإهمال، بل النسيان، حتى إن البعض، من المصريين وغيرهم، يتساءل اليوم: أكانت هذه رؤية طه حسين لمصر، أي أن مستقبلها الأكيد واقعٌ في ثقافة الإغريق، وفي الأفق الأوروبي؟
هذا ما ارتسم في وجهات مغايرة، في العقدين الأخيرين من حياة طه حسين، بعد نجاح انقلاب «الضباط الاحرار»، وتأكدِ التوجهات «القومية العربية» لمصر، ما لم تكن عليه طوال حكم أسرة محمد علي.
هذه التساؤلات ضرورية، إلا أنها لا تصيب تماماً في تعيين ما كان عليه مشروع طه حسين في عميقه، في استهدافاته. فما عملَ من أجله، وسعى إليه، يتمثل، قبل أي شيء آخر، في لزوم البحث، وأولى عتباته: تفقد المدونة، وفحصها.
كان طه حسين، في مشروعه هذا، لصيقاً بالمعرفة، طالباً لحيويتها، ولأن تكون رافدَ تقدمٍ في المجتمع.
لا يسع المتابع وضع طه حسين على المحك، من دون وضع الزمن المصري كما العربي على المحك، وقبله.
طه حسين نجح نجاحاً مذهلاً في مسيرته، ما لم يبلغه مثقف عربي حتى اليوم، حتى بات أيقونة الثقافة العربية في القرن العشرين. بل يمكن السؤال: أكان طه حسين قادراً على بلوغ ما بلغَه من مكانة في النصف الثاني من القرن العشرين؟
أما ما فعلَه الزمن السياسي والثقافي، في أيام طه حسين وبعدها، فلا يعدو كونه الانقلاب عليه، وعلى القيم التي تمثلَها، وعلى الاستهدافات التي طلبَها وعملَ من أجلها.
ذكرى طه حسين منيرة حكماً لمن يطلبون النور فعلاً. وتتأكد في البحث، وحريته وزخمه، لا في نصب شاهدة المكانة، ليس أكثر.