عودة: ما يحصل في غزة مؤلمٌ ومرفوضٌ لكن يجب إبعاد لبنان عن هذا الصراع

12 : 19

رأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الارثوذكس المطران الياس عوده خدمة القداس الإلهي في كاتدرائية القديس جاورجيوس.

بعد قراءة الإنجيل المقدس، ألقى عظة قال فيها: " أَحِبَّائي، تُعَيِّدُ كَنيستُنا المُقَدَّسَةُ اليَوْمَ لِلآباءِ الثَّلاثمِئَةِ والسَّبْعَةِ والسِّتّينَ المُجْتَمِعينَ في مَدينَةِ نِيقِيَةَ خِلالَ المَجْمَعِ المَسْكُونِيِّ السَّابِعِ الَّذِي عُقِدَ عام ٧٨٧، على عَهْدِ الإِمْبَراطور قسطنطين وأُمِّهِ إيريني، لِلدِّفاعِ عَنْ عَقيدَةِ إِكْرامِ الأَيْقونات. تُعَدُّ حَرْبُ الأَيْقوناتِ، بَيْنَ القَرْنَيْنِ الثَّامِنِ والتَّاسِعِ، مِنَ الأَزْمِنَةِ المِفْصَلِيَّةِ في تاريخِ الإِمْبَراطورِيَّةِ الرُّومانِيَّة، في القِسْمِ الشَّرْقِيِّ مِنْها تَحْديدًا.


إِذا قَرَأْنا التَّاريخَ قَدْ نَتَساءَلُ عَنْ عَلاقَةِ مَوْضُوعٍ كَنَسِيٍّ إِيمانِيٍّ بِمَصيرِ إِمْبَراطورِيَّةٍ كامِلَة إذ كادَ مَوْضوعُ إِكْرامِ الأَيْقوناتِ يُؤَدِّي إلى نُشوبِ حُروبٍ أَهْلِيَّةٍ وانْقِسامِ الإِمْبَراطورِيَّةِ العَظيمَة. كانَت المَسيحِيَّةُ الدِّيانَةَ الرَّسْمِيَّةَ لِلإِمْبَراطُورِيَّةِ الرُّومانِيَّة، وقد شَكَّلَ إِكْرامُ الأَيْقوناتِ جُزْءًا كَبيرًا مِنَ الحَياةِ اللِّيتورْجِيَّةِ فيها. لَمْ يَكُنْ هُناكَ تَفريقٌ بَيْنَ الحَياةِ الكَنَسِيَّةِ والحَياةِ المَدَنِيَّةِ حِينَها، وكانَ كُلُّ ما يُؤَثِّرُ على انْتِظامِ حَياةِ الكَنِيسَةِ يُهَدِّدُ وِحْدَةَ الإِمْبَراطُورِيَّة.


كانَ هَذا سَبَبًا أَساسِيًّا في انْعِقادِ كُلِّ المَجامِعِ المَسْكونِيَّةِ لِتَحْديدِ مَوْقِفِ الكَنِيسَةِ مِنْ أُمورٍ عَقائِدِيَّةٍ قَدْ تُهَدِّدُ السَّلامَ الدَّاخِلِيَّ في الكَنيسَة، وبالتالي السِّلْمَ الأَهْلِيَّ في رُبوعِ الإِمْبَراطُورِيَّة. حَرْبُ الأَيْقوناتِ هَدَّدَتْ وُجودَ الإِمْبَراطُورِيَّةِ الرُّومانِيَّةِ بِسَبَبِ الإنْقِسامِ حَوْلَ تَكْريمِ الأَيْقوناتِ، ما استَدعى عَقْدَ مَجْمَعٍ مَسْكُونِيٍّ لِحَلِّ النِّزاع. اسْتَنَدَ مُحارِبُو الأَيْقوناتِ إلى عِدَّةِ أفكارٍ دِفاعًا عَنْ مَوْقِفِهِم الرَّافِضِ لإِكْرامِها. اسْتَشْهَدوا أَوَّلًا بِآيَةٍ مِنْ سِفْرِ الخُروجِ تُحَظِّرُ رَسْمَ الأَيْقوناتِ: «لا تَصْنَعْ لَكَ تِمْثالًا مَنْحُوتًا ولا صُورَةً مِمَّا في السَّماءِ مِنْ فَوْق وما في الأَرْضِ مِنْ تَحْت وما في الماءِ مِنْ تَحْتِ الأَرْض.


لا تَسْجُدْ لَهُنَّ ولا تَعْبُدْهُنَّ» (خر 20: 45). جاءَ الرَّدُّ المستقيمُ الرَّأي مِنَ السِّفْرِ عَيْنِهِ حَيْثُ أَمَرَ الرَّبُّ موسى النَّبِيَّ بِنَحْتِ صُوَرٍ وتَماثيلَ قائلاً له: «تَصْنَعُ كَرُوبَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ. صُنْعَةَ خِراطَةٍ تَصْنَعُهُما على طَرَفَيّ الغِطاء» (خر 25: 18)، في حَديثٍ عَنْ شَكْلِ تابوتِ العَهْدِ الَّذي يَحوي لَوْحَي الوَصايا".



وتابع: "بِما أَنَّ «اللهَ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطّ» (يو 1: 18)، وهُوَ غَيْرُ مَحْدودٍ، اعْتَبَرَ مُحارِبُو الأَيْقوناتِ أنّه لا يُمْكِنُ لأَيِّ إِنْسانٍ أَنْ يَتَصَوَّرَهُ لِيَنْقُلَ لَنا صُورَتَهُ. وبِما أَنَّ الرَّبَّ يَسوعَ هُوَ إِلَهٌ تامٌّ وإِنْسانٌ تامّ، لا يُمْكِنُ أَنْ نُصَوِّرَ هَذِهِ الأُلوهَةَ بِأَيِّ شَكْل. كانَ الرَّدُّ المُسْتَقيمُ أَيْضًا مِنْ خِلالِ تَعالِيمِ آباءِ الكَنيسَة، خُصوصًا القِدِّيسِ يُوحَنَّا الدِّمَشْقِيِّ الَّذي قالَ إِنَّ تَجَسُّدَ المَسيحِ واتِّخاذَهُ الجَسَدَ البَشَرِيَّ سَمَحَ لِلبَشَرِ أَنْ يَتَصَوَّرُوهُ، وهَكَذا رَسَموا أَيْقوناتٍ تُجَسِّدُ المَسيحَ التَّاريخِيَّ والأَحْداثَ الخَلاصِيَّةَ الَّتي عاشَها. بِالنِّسْبَةِ إلى الكَنيسَة، تُعَبِّرُ الأَيْقوناتُ عَنْ دَليلٍ مَحْسوسٍ على أَنَّ ابْنَ اللهِ تَنازَلَ إلى العالَمِ وتَجَسَّدَ وماتَ على الصَّليبِ، وقامَ مِنْ بَيْنِ الأَمْواتِ وصَعِدَ إلى السَّماواتِ لِخَلاصِ جِنْسِ البَشَر. إِعْتَرَضَ المُحارِبونَ على الإِكْرامِ الَّذي كان المُؤْمِنونَ يُقَدِّمونَهُ لِلأَيْقوناتِ مِنْ سُجودٍ أَمامَها وتَقْبيلِها وإِضاءَةِ شُموعٍ، الأَمْرُ الَّذي بَدا لِغَيْرِ المُؤْمِنينَ سُجودًا لِلأَيْقوناتِ كَمادَّةٍ بِذاتِها عِوَضَ السُّجودِ لِلخالِق. اعْتَمَدَ المَجْمَعُ السَّابِعُ، في هَذِهِ المَسْأَلَةِ أَيْضًا، على تَعالِيمِ القِدِّيسِ يُوحَنَّا الدِّمَشْقِيِّ القائِلِ إنَّ تَّكْريمَ الأَيْقوناتِ والسُّجودَ لَها هو تَكريمٌ للمصَوَّرِ فِيها، والمَسيحِيُّونَ لا يُكَرِّمونَ المادَّةَ، بَلْ مَنْ رُسِمَ عليها. حَرْبُ الأَيْقوناتِ مَرْحَلَتان: الأُولى إلى حِينِ انْعِقادِ المَجْمَعِ المَسْكُونِيِّ السَّابِع، والثَّانِيَةُ في أَيّامِ الإِمْبَراطورِ لاوُن الخامِس الَّذي عاوَدَ شَنَّ حَرْبٍ على الأَيْقونات.


في هَذِهِ المَرْحَلَةِ، انْبَرَى القِدِّيسُ ثيودوروس الاسْتودِيتِيُّ لِلدِّفاعِ عَن الأَيْقوناتِ تارِكًا لَنا لاهوتًا عَظِيمًا في هَذا الشَّأْن. بَعْدَ مَوتِ لاوُن مُحارِبِ الأَيقونات، واسْتِلامِ الإِمْبراطورَةِ ثيودورة الحُكْمَ، عَيَّنَتْ مِيثوديوسَ الأَوَّل بَطْرِيَرْكًا على القِسْطَنْطِينِيَّة، فَثَبَّتَ عَقِيدَةَ تَكْريمِ الأَيْقوناتِ، وانتهتْ الحَرْبُ عَلَيْها رَسْمِيًّا، فَأُقيمَ احْتِفالٌ عَسْكَرِيٌّ تَخْلِيدًا لِذِكْرَى الانْتِصارِ على مُحارِبي الأَيْقوناتِ، ورَفَعَ كُلُّ المَسِيحيِّينَ أَيْقوناتِهِم وساروا في كُلِّ أَنْحاءِ العاصِمَة. عُرِفَ هَذا الاحْتِفالُ بِانْتِصارِ الأُرْثوذُكْسِيَّة، ولا نَزالُ نُعَيِّدُ لَهُ في الأَحَدِ الأَوَّلِ مِنَ الصَّوْمِ الكَبِيرِ المُقَدَّس".



اضاف: "يا أَحِبَّة، سَمِعْنا في رِسالَةِ اليَوم قَوْلَ الرَّسولِ بولُسَ إلى تِلْميذِهِ تيطُس: «صادِقةٌ هِيَ الكَلِمَةُ وإِيَّاها أُريدُ أَنْ تُقَرِّرَ حَتَّى يَهْتَمَّ الَّذينَ آمَنوا بِاللهِ في القِيامِ بِالأَعْمالِ الحَسَنَة... أَمَّا المُباحَثاتُ الهَذَيانِيَّةُ والأَنْسابُ والخُصوماتُ والمُماحَكاتُ النَّاموسِيَّةُ فَاجْتَنِبْها فَإِنَّها غَيْرُ نافِعَةٍ وباطِلَةٌ».


هَذِه الوَصِيَّةُ اتَّبَعَها الآباءُ القِدِّيسونَ في عَمَلِهِم الكَنَسِيّ، فنَقَلوا إلى النَّاسِ الكَلِمَةَ الإِلَهِيَّةَ الحَقيقيَّةَ، إِلَّا أَنَّهُم لَمْ يَعِظوا فَقَط بَلْ عَمِلوا بِهَدْيِ الكَلِمَةِ فَأَصبَحوا مَناراتٍ لا نَزالُ نَهْتَدي بِها. لَقَدْ عَمِلُوا على إِرْساءِ إِيمانٍ قَويمٍ، فيما نَرى في هَذِهِ الأَيَّامِ مَسيحِيِّينَ يَنْجَرُّونَ وَراءَ أُمورٍ بَعيدَةٍ عَنِ الإيمانِ ولا تَمُتُّ إِلى عقيدةِ الكَنيسَةِ بِصِلَة، بَل إلى مُعْتَقَداتٍ وَثَنِيَّةٍ يُقَدِّمُها عارِضوها على أَنَّها أَدَواتٌ وطُرُقٌ لإِراحَةِ النَّفْسِ والعَقْلِ مِنَ ثِقَلِ الهُمومِ المَعيشِيَّةِ والنَّفسِيَّةِ والرُّوحِيَّة. لَقَد ازْدادَ لَدى النَّاسِ، في زَمَنِنا، عِشْقُ المُباحَثاتِ الهَذَيانِيَّةِ والخُصوماتِ والمُماحَكاتِ، بِسَبَبِ إهمالِ الإيمانِ الحَقِّ، إضافَةً إلى الانْحِطاطِ في التَّرْبِيَةِ والتَدَنّي الأَخْلاقِيِّ ومَرَضِ وَسائِلِ التَّواصُلِ الاجْتِماعِيِّ الَّتي، عوضَ تَقريبِ البَشَرِ نَجِدُها تُفَرِّقُهُم بِسَبَبِ التَّنَمُّرِ والآراءِ الحاقِدَةِ والأخبارِ الكاذبةِ والشَّتائِمِ المُتَبادَلَةِ، عَدا عَنِ المُحْتَوى غَيْرِ النَّافِعِ، الَّذي وَصَلَ بِالإِنسانِ أَحيانًا إلى التَّخَلِّي عَنْ إِنْسانِيَّتِهِ وإيمانِهِ وصورَتِهِ الإِلَهِيَّةِ الَّتي خَلَقَهُ اللهُ عَلَيها، فَقَطْ مِنْ أَجْلِ كَسْبٍ مادِّيٍّ أو ترْويجِ أفكارٍ لِغاياتٍ كثيرة. وفي الحديثِ عَن الإنسانيّةِ نؤكِّدُ أنَّ ما يَحصَلُ في غزة مؤلمٌ ومرفوض. إنّها جريمةٌ ضِدَّ شعبٍ ذنبُه الوحيدُ أنّه يَتَشَبَّثُ بأرضِه ويُدافعُ عن تاريخِه. والمؤلِمُ أكثرَ أنَّ ضمائرَ قادةِ العالمِ نائمةٌ، وهم يَكيلون بمكيالَيْن، والعدالةُ غائبة.


ففيما تُستَباحُ حقوقُ الشعبِ الفلسطينيّ منذُ عقود، ويُقتَلُ هذا الشعبُ دونَ رحمةٍ، يُعْتَبَرُ رَفْضُه الظُلمَ اللاحِقَ به جريمةً، فيما الجريمةُ الكبرى هي انتهاكُ حُقوقِه والمُقَدَّساتِ وسَلْبُ أرضِه ومَنْعُه مِنَ العَيشِ في وطنِه. الكنيسةُ تقِفُ دائماً ضِدَّ العُنفِ وضِدَّ الحربِ لكنَّها تَرفضُ الظُلمَ لذا، أملُنا أن تَهُزَّ هذه الكارثةُ ضمائرَ قادةِ العالمِ فيُدركوا ضرورةَ وَقْفِ القِتالِ وإيجادِ حلٍّ عادلٍ لهذه القضية، لأنْ لا سلامَ حيثُ يوجَدُ ظُلمٌ، والأبرياءُ وحدَهم يَدفعون الثمنَ دائماً، مع الصحافيين الذين يُسْكَتون كي لا يُظهِروا الحقيقة".



وختم عوده: "لكنَّ ما يُؤلِمُنا أيضاً غِيابُ الموقفِ اللبنانيّ الرسميّ الموَحَّد، وعَدَمُ التَشديدِ على ضرورةِ إبعادِ لبنانَ عَن هذا الصراع. لبنانُ الذي تَحَمَّلَ وحدَه في الماضي تَبِعاتِ هذا الصراعِ ودَفَعَ أثماناً باهظةً، يَمرُّ بأسوأِ الأوضاعِ وأصعَبِها، وهو غيرُ قادِرٍ على دَفْعِ أثمانٍ إضافيةٍ هو عاجِزٌ عن دَفْعِها، وهو بِغِنىً عن التَوَرُّطِ في نِزاعٍ سوف ينعكسُ جحيماً على شعبِه وما تَبَقّى مِن مؤسساتِه. دُعاؤنا أنْ يرنو الجميعُ إلى المصلحةِ الوطنية، مصلحةِ لبنان واللبنانيين الذين ثَقُلَتْ أحمالُهم، وهم بحاجةٍ ماسّةٍ إلى مَنْ يَضَعُ مصلحتَهم فوقَ كلِّ مصلحة، وأن يُحِلَّ اللهُ سلامَه وعَدْلَه في هذه المنطقةِ وفي لبنان كي يعيشَ الإنسانُ فيهما بحريّةٍ وكرامة، آمين".

MISS 3