مصطفى علوش

ماذا لو؟

19 تشرين الأول 2023

02 : 00

«ولو خُلقت قلوب من حديد

لما حملت كما حمل العذابا

ولا ينبيك عن خلق الليالى

كمن فقد الأحبة والصحابا

فمن يغتر بالدنيا فإني

لبست بها فأبليت الثيابا»

(أحمد شوقي)

لستُ من الذين يعتمدون نظريات المؤامرة في كل حدث، مع أنني أضعها في لائحة الاحتمالات المنطقية. لكن المنطق لوحده لا يوصل إلى الحقائق إن كان محض اجتهاد، إلا إذا تسلّح بالوقائع والقرائن. القرائن هنا قد تستند إلى النيات والتجربة والماضي، لكن الوقائع يجب أن تكون ملموسة في الحاضر حتى نتمكن من استنتاج أقرب إلى الحقيقة. لكن الصدف قد تتشابك أحياناً وتتكاتف لتصل إلى نتائج مذهلة نظن معها أنّ الأمر لا يمكن أن يكون مجرد ضربة حظ عشوائية. لكننا أحياناً نتمسك بنظرة المؤامرة لمجرد التنصل من مسؤولية أخذ وسائل التمحيص والعلم والحذر، وأحياناً من مسؤولية الكسل والجهل.

لكن سيناريو المؤامرة، بالنسبة لما يحدث اليوم، يجري تداوله بين الناس وهو أنّ العقل الصهيوني كان يبحث عن سبب للقيام بالهجوم على غزة، فسمح أو ترك ثغرات في دفاعاته وتحصيناته، كما تغاضى عن المعلومات المخابراتية، ليكون بالإمكان حصول عملية يُقتل فيها مدنيون يهود، ما يعطي لإسرائيل الرخصة لتجاوز كل المحاذير في الهجوم على قطاع مكتظ بالمدنيين الذين لا حول لهم ولا قوة إلا الدعاء بألا تهبط سطوح منازلهم على رؤوسهم. القرائن الهامشية، والتي أظنها الأقل أهمية في ما يحدث اليوم، هي حاجة بنيامين نتنياهو إلى تعويم ذاته وإعادة توحيد المجتمع الإسرائيلي حوله، لكن هذا الأمر مستبعد لأن يكون وحده السبب، كما أن القضية مكشوفة لدرجة ستجعله عرضة للرجم من قبل المعارضة.

ماذا لو كان الهدف الأساسي هو وجوديّ للدولة اليهودية؟ والوجوديّ يعني واقعاً ديموغرافياً تصاعدياً سيؤدي قريباً إلى تفوّق عدد الفلسطينيين الموجودين على أرض فلسطين على عدد اليهود؟ في هذه الحال يصبح الهدف المطلوب جديراً بهول الفعل ورده. يعني أن يعود قادة إسرائيل إلى أيام التأسيس لدفع أكبر عدد من الفلسطينيين لترك منازلهم واللجوء إلى أي مكان، ومصر بالنسبة لغزة تصبح الملاذ الوحيد. لكن مصر حتى الآن أقفلت معبر رفح. السؤال هو: إلى متى؟ وحتى أي ثمن؟

المؤكد من جهة إسرائيل أنّها تخوض اليوم معركة وجود وليس مجرد حرب لاستعادة الهيبة التي لن تستعاد أبداً إلا بانتصار كامل، أي باستسلام حركة «حماس» وتسليم سلاحها وقادتها، وهو ما لا يبدو ممكناً في هذا التوقيت من الحرب. ما يعني المزيد من القصف والدمار ودفع المزيد من الغزاويين إلى النزوح، لكن إلى أين؟ الواضح حتى الآن هو أنّ النزوح هو إلى بقعة من القطاع قد تتمتع حتى الآن ببعض الحصانة من القصف، وهو أمر غير مضمون، ما يعني أنّ المعبر المغلق باتجاه مصر قد يجبر على أن يفتح تحت الضغوط والإغراءات المحتملة في الأيام القادمة. لكن، حتى ولو فرضنا أنّ المعبر بقي مغلقاً وبقي الغزاويون عالقين إلى حين انتهاء الحرب التي تمتد إلى أجل غير مسمى، فسيعودون إلى مدينة من دون بيوت، على الأقل لجزء كبير منهم.

قد يكون من المحتمل أنّ حماس أعدّت العدّة لردة فعل إسرائيلية، وربما أنّها تستدرج قواتها لحرب شوارع تكون مصيدة تحيد القوات الجوية الإسرائيلية وتصبح المواجهة أكثر ندية، مع تفوق منطقي لأصحاب الأرض. لكن إسرائيل بالتأكيد أخذت هذا الأمر بالحسبان، وبالتالي فإنّها ستمهّد لهذا الاجتياح بسياسة الأرض المحروقة وتدمير كل شيء أمامها وتسويته بالأرض. هذا يعني أنّ الدمار وفقدان أي بنية تحتية من ماء ووسائل عيش سيمنع مئات الآلاف من العودة.

نعود هنا، إلى ماذا لو؟ هل سمحت المخابرات الإسرائيلية بحدوث هذا الاختراق فخرجت الأمور عن السيطرة بحجم الخسائر. هل توقع المهاجمون هذا الحجم من النجاح العسكري؟ وهل كان قتل هذا العدد من المدنيين مقصوداً منذ البداية؟ أم أن الأمر أتى بفورة غضب؟ وهل تدفع غزة و»حماس» اليوم ثمن انتصار غير محسوب بحجمه؟ المؤكد هو أنّ منطق استغلال حجم الضحايا اليهود ليس جديداً بالنسبة لإسرائيل في سبيل تحقيق أهدافها الكبرى. عشية اندلاع الحرب العالمية الثانية، وبعد فترة من ليلة «الكريستال المكسور»، حصل في برلين لقاء سري موثّق بين أدلف إيخمن، أحد أهم مهندسي المحرقة، وفيفل بولكس ممثل منظمة «هاغانا» التي كان يرأسها زئيف جابوتنسكي العنصري المعجب بالمثال الأوروبي، حيث تمّ التفاهم على أنّ ترحيل اليهود من ألمانيا ضروري باتجاه فلسطين ليتفوق عدد اليهود على العرب. تمّ أيضاً بحث تفاصيل ترانسفير لليهود الألمان بين الإثنين. كما أنّ إيخمن توجه بعدها إلى فلسطين للاستكشاف على أساس أنه صحافي ليرى على الأرض هذه الإمكانية. لفّ الغموض هذه الزيارة كما توصيات إيخمن إلى قيادته، لكن الوثائق التي نشرتها صحيفة «جيروزاليم بوست» فضحت تورط زعيم منظمة «شتيرن» اليهودية العنصرية اسحق شامير، والذي أصبح رئيساً لوزراء إسرائيل لاحقًا، بمحاولته نسج علاقة مع ألمانيا النازية بينما كانت إجراءات «الحل النهائي» النازي بحق اليهود قائمة على قدم وساق. طرح شامير كان مبنياً على أن تفرج ألمانيا عن أعداد وأسماء منتقاة من اليهود وإهمال الملايين الآخرين، مقابل انقلاب اليهود في فلسطين على البريطانيين. لم تنجح المبادرة يومها، لكن استغلال القيادات الصهيونية للضحايا اليهود موثّق من مصادر محايدة وموثوقة، بالرغم من أنّ القلائل من العرب مطلعون عليها.

مع استنكاري لقتل العزل أكانوا يهوداً أم فلسطينيين، فأنا هنا لا أحاول التقليل من حجم «النجاح» العسكري لعملية حماس، لكن الأمر إنّ وضع في ظل رؤيا استراتيجية وجودية نجد أنّه بالمحصلة سيستغل قادة إسرائيل ضحاياهم من جديد في سبيل تحقيق رؤيا أبوكاليبتية، ولكن وجودية بالنسبة لدولتهم واستمرارها.


MISS 3