كتابان يعيدان قراءة تاريخ لبنان: تجربتا التنمية والحرير تحت المجهر

02 : 00

بعد تراجع منسوب إنتاج الدراسات والأبحاث المتخصصة بتاريخ لبنان الحديث، يأتي كتابان جادّان وأكاديميّان هما «تجربة لبنان التنموية» لألبير داغر، و»وطنٌ من حرير: دورُ اقتصاد الحرير في العصر الحديث في تشكيل هويّة لبنان المعاصر» لفادية علي إسماعيل، عن «المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات».



إذا كان الكتابان يلتقيان في المساحة الزمنية التي يبحثان فيها، يبقى لكل منهما زاوية خاصة في المعالجة وخلاصات فكرية. فداغر يقدم قراءة متكاملة في تجربة لبنان التنموية منذ العهد العثماني. ويعتبر أن رؤيته الجديدة تختلف عن الموقف السائد منذ استقلال لبنان، والذي قدّمه ميشال شيحا.

ويرى داغر أن مكمن مشكلة لبنان هو الثقافة السياسية لأبنائه، التي ينبغي العمل على تهذيبها وإزالة شوائبها الضارة مهما كلّفت من جهد، لأنها «بيت القصيد» في قضية «العيش المشترك»، وتستحق كل الجهد. أما بشأن الثقافة الاقتصادية، فإن أسوأ ما يمكن أن يصادفه المرء في لبنان أن لا يجد الشباب ما يقولونه حينما يريدون الحديث عن تجربة بلدهم الاقتصادية، وأن لا يتوفّر لهم ما يُعينهم في الحكم عليها.

أما إسماعيل فتطرح أسئلة تكوينية مصيرية، على غرار: مَن أكون؟ إلى من أنتمي؟ لماذا يتعدّد الانتماء في وطن واحد؟ ولماذا تفشل كلّ محاولة لتوحيد الانتماءات؟ مُعربةً عن رغبتها الشديدة في التوصل إلى أجوبة شافية، وعميقة، وليس إجابات سطحية أو شوفينية تركن إلى المرويات الفولكلورية الشعبية.

وترى مؤلفة «وطن من حرير» في بلورة ملامح الهوية الجامعة أمراً ضروريّاً لتبنيَ عليه رؤيةً أوضح لمواطَنَتها اللبنانيّة، التي تؤمن بها إيماناً راسخاً.

السير نحو الأزمة

يبدأ كتاب «تجربة لبنان التنموية» بقراءة نظرية متعلقة بالحقبة العثمانية في لبنان. ويتناول هذا الفصل دور نخب الأقاليم العثمانية في ظل تبعية السلطنة للخارج خلال مرحلة ضعفها، مستعرضاً أحداث الساحة اللبنانية خلال السنوات الخمسين الأخيرة من عمر «الرجل المريض»، بعد أن قبلت السلطنة أن تتحوّل إلى اقتصاد تابع يوفّر سلعاً زراعية لأسواق أوروبا من أجل سداد ديونها. ويقدّم الفصل دراسة سوسيولوجية عن العلاقة بين الشعب ودولته فيها.

وبعد توقف الفصل الثاني عند دور الدولة العثمانية في التنمية خلال عهد المتصرفية، يضيء على انعكاس وضع القوى الأوروبية المنتصرة في الحرب العالمية الأولى يدها على مداخيل الدولة، ما انعكس فشلاً تنمويّاً على أقاليمها ومنها جبل لبنان الذي شهد مجاعةً وهجرة.

ويعرض الفصل الثالث لنصوص روجر أوين وكارولين غيتس اللذين يؤكدان رفض الدولة في مرحلة الانتداب تحمّل أي مسؤولية في بناء الاقتصاد المنتج. وإذ يتحدث عن تحوّل بيروت إلى نقطة الثقل الاقتصادي، يُلقي الضوء على الريف والهجرة منه.

وينتقل الفصل الرابع إلى كتابَي إيرين غندزير وكارولين غيتس اللذين يتناولان الانتداب ومطلع الاستقلال حتى نهاية الخمسينات. ويتناول هذا الفصل التناقض بين شعار «المعجزة الاقتصادية» والواقع وخصوصاً قطاع الخدمات والزراعة في الريف، والصناعة.

ويصل الفصل الخامس إلى تجربتَي فؤاد شهاب وشارل حلو التنمويتين، وكيف أنهما وضعا أولوية لتثبيت سعر صرف مرتفع للعملة أدى إلى خفض الرسوم الجمركية على الاستيراد. ما أدى إلى نموه وتصفير عجز الموازنة، كما زاد الحُكْمان الإنفاق المخصص للزراعة.

ويناقش الفصل السادس التنمية مع المشرّع ميشال شيحا ومن تأثروا به، ومنهم سليم نصر.

ويقدّم الفصل السابع قراءةً لتجربة النصف الأول من السبعينات مع بداية غلاء المعيشة والأزمة الاجتماعية، ويشير إلى غياب الإصلاحات الإدارية وتفشّي البيروقراطية.

وفيما تتناول الفصول الثامن والتاسع والعاشر تجربة عقد التسعينات ونتائجها، يهتم الفصل الحادي عشر بـ «السير نحو الأزمة المالية».






الهوية

أما كتاب «وطن من حرير»، فترى مؤلفته أنه بعد تقطُّع أوصال المشرق نتيجة الحرب العالمية الأولى، استمر لبنان بين كياناته بهوية و»شخصيّة» متميزتين، ظهرت معالمهما في تعددية دينية رسمت على رقعته جغرافيا سكانيةً وتوازناتٍ ديموغرافية ونظاماً اقتصادياً وسياسياً حراً ومفتوحاً ذا توجّه غربي وقائماً على التجارة والخدمات والقطاع المصرفي، وكذلك في شعب ومجتمعات منفتحة على الثقافة الغربية. وأمام هذا الوجه المُشرق قبعَ وجهٌ آخر داكن تمثل في حالٍ من انفصام الهويّة المشتركة بين سكانه كان يترجَم أحياناً اضطراباتٍ بلغت ذروتها في حرب أهلية عام 1975. وهنا يُطرح السؤال: لماذا اشتملت الهوية اللبنانية المتميزة في محيطها على عناصر إشكالية زرعت الشقاق بين اللبنانيين وساهمت في تفخيخ النسيج اللبناني وتفجيره؟




تمهد المؤلفة لإيجاد أجوبة عن الإشكالية التي طرحتها في إثبات فرضية أن لإنتاج الحرير دوراً مهماً في تشكّل هوية الكيان اللبناني الوليد.

وقسمت إسماعيل فرضيّتها الكبرى إلى ثلاث صغرى، ووزّعت الحديث عنها في فصول الكتاب الثلاثة؛ فالفصل الأول خُصص لدور الحرير في تشكيل جغرافيا لبنان الطائفيّة عبر تتبُّع خريطة توزّع المسيحيين والشيعة في جبل لبنان منذ أيام فخر الدين. والفصل الثاني، يتناول الأثر الذي تركه اقتصاد الحرير، بعد ارتباطه بليون الفرنسية ومصالح فرنسا الاقتصادية منذ أواسط القرن التاسع عشر، في نظام لبنان الاقتصادي - السياسي بعد الاستقلال. ويرصد الفصل الثالث أثر اقتصاد الحرير في النمو السكاني للمسيحيين (هجرة، ولادات، وفَيات) وهو الذي شكّل لبّ الهواجس الديموغرافيّة للمسيحيين، وعكسَ تبنّيَ المجتمع المسيحيّ الثقافة الأوروبيّة مبكّراً.

إن الأهداف التي توخت المؤلفة تحقيقها من خلال بحثها، تقع في مستويات ثلاثة يتّفق ترتيبها مع الأبعاد المختلفة لدور اقتصاد الحرير في تشكّل الهويّة اللبنانيّة؛ المستوى الأول: اكتشاف خلفيّات تكوّن خصوصيّة الهويّة اللبنانيّة. والمستوى الثاني: تبرئة الانتماء الدينيّ للبنانيين من تهمة التسبّب في اقتتالهم وتباعدهم؛ إذ تنحو المؤلفة إلى اعتبار السبب في هذا تغير المصالح، التي تؤثر في التحالفات الخارجيّة والداخليّة، وتنشئ خلافات لم تكن موجودة وتفضّ تحالفات كانت مكرَّسة. والمستوى الثالث: تقييم الخيار الاقتصادي الذي التزمه أهل جبل لبنان وطوروه، ودراسة تأثير هذا الخيار في الأمد البعيد في بنية البلد الاقتصادية والسياسية، وفي العقلية الحاكمة للبلد التي ظلت منذ تأسيس الدولة إلى اليوم (حوالى مئة عام) هي ذاتها، وإن تغيرت الأسماء والطوائف.

المساهمة الجديدة التي أدخلها كتاب «وطن من حرير»، وفق مؤلفته، هو وضع قطاع الحرير اللبناني في محور سردية تاريخ لبنان لا على أطراف هذه السردية أو بصفته تفصيلاً، وكذلك الاستفاضة غير المسبوقة في ملاحقة جميع الخيوط التي ربطت هذا القطاع بتحولات الحياة في جبل لبنان: من الاقتصاد إلى الديموغرافيا والمجتمع والسياسة، ثمّ اقتفاء أثر هذه التحولات في هوية لبنان المعاصر.


MISS 3