طوني فرنسيس

40 عاماً على الاجتياح... 20 على التحرير

آخر المنسحبين حاكماً لإسرائيل و"حزب الله" حاكماً للبنان!

23 أيار 2020

02 : 00

زمن مواجهات الإخوة
عندما بدأت الحرب الاسرائيلية على لبنان في حزيران 1982، كان الفيلم السينمائي الأبرز الذي يُعرض في بيروت، فيلم "ريدز" الطويل جداً (194 دقيقة)، الذي يحكي قصة الكاتب الاميركي جون ريد في مغامرته بمواكبة الثورة الروسية (1917) التي كتب عنها كتابه الأشهر "عشرة ايّام هزت العالم ".




كان الفيلم المُنتَج في العام السابق (1981) طويلاً الى حد أننا لدى خروجنا من الصالة (كونكورد) في بعد ظهر ذلك الاثنين كاد نصف الحرب ان ينتهي، والأيام العشرة المتبقية كانت مهمتها هزّ ما تبقى من الجمهورية اللبنانية المتداعية إثرَ عقد ونصف من حروب الدفاع عن عروبة لبنان وحماية الثورة الفلسطينية فيه...ومن معارك الدفاع عن لبنان السيد المستقل في وجه محاولات الابتلاع الفلسطينية ثم السورية...

على ان كل تلك المعارك الآنفة كانت انتهت منذ سنوات، وخطوط التماس المرسومة في نواحي البلد كانت حدوداً لمناطق نفوذ يجري الاقتتال داخلها أكثر مما يجري بين قواها المتقابلة. كانت المبادرة السورية "الكريمة" في اجتياح لبنان العام 1976 قد استقرت على الضفة الشمالية لنهر الأولي حيث قرر الاسرائيليون، ومنها الى الجنوب نشطت القوات الفلسطينية وأنصارها من اللبنانيين الى ان أعاد الاسرائيلي ترسيم حدود حركتهم في الاجتياح الاول العام 1978 الذي أصدر مجلس الأمن القرار 425 في خصوصه، لكن القرار لم ينفذ وتحول الى لازمة في خطابات المسؤولين اللبنانيين، بتوجيهات سورية على الارجح، لاطمئنان هؤلاء الى ان اسرائيل لا يمكن ان تنفذ قراراً للأمم المتحدة، وهو ما التزمت به الدولة العبرية منذ قيامها وحتى ابلاغ حكومة ايهود باراك مجلس الأمن عزمها على الانسحاب من جنوب لبنان كلياً في 23 آيار 2000 بمقتضى ذلك القرار الشهير اياه. كانت المناخات السياسية والشعبية الداخلية جاهزة ومهيأة تماماً لتقبل فكرة الاجتياح. فمنذ انتهاء حرب السنتين (٧٥-٧٦) انصرف المتقاتلون الى حروبهم الداخلية.


في المناطق الشرقية تم"توحيد البندقية " في معارك متلاحقة تخللتها صدامات واسعة مع القوات السورية التي أمعنت تدميراً في بيروت وزحلة، وفي المناطق الغربية تحولت بيروت عشية ذلك الصيف الأحمر الى احياء عصابات متناحرة، وفي الجنوب دارت صدامات يومية بين منظمات فلسطينية وأحزاب لبنانية من جهة وبين منظمات لبنانية اخرى ابرزها حركة أمل مدعومة من السوريين، وادى الحضور العسكري الفلسطيني المديد في كل تلك الجهات من بيروت الى الجنوب والشمال الى ابتعاد شعبي ملموس عن الاحتضان السابق للعمل الفلسطيني، الا ان منظمة التحرير ظلت تعتقد بقيادة زعيمها ياسر عرفات بإمكانية تسجيل النقاط، وفي تموز من العام 1981 خاضت حرب صواريخ عبر الحدود انتهت الى وقف إطلاق النار بينها وبين اسرائيل من دون اَي علاقة للبنان الرسمي بالأمر، ما سهّل تبرير الاجتياح المقبل.

المقاومة والتحرير والتوحيد

حصلت الحرب الخاطفة وسط مزاج ملائم للغزو في أوساط عدة، رغبة في الخلاص من الوضع السابق، وبالوصول عند آخرين الى صيغة جديدة للسلطة.

وفي الفترة القصيرة بين حزيران ونهاية أيلول 1982، سُجِّل تطوران فعليان في المناخ السياسي من موقعين متصادمين في الصراع المديد. التطور الاول هو المناخ الذي أشاعه انتخاب بشير الجميل رئيساً للجمهورية والخطاب الذي تبناه حتى لحظة اغتياله في 14 أيلول، وهوخطاب لبناني وطني توحيدي يراهن على قيام الدولة والمؤسسات من بين انقاض الانقسامات... والتطور الثاني، جاء بسبب اغتيال الجميل وتبنياً ضمنياً من دون اعلان مباشر لمبادئ الوحدة والإنقاذ.

فغداة الاغتيال، في 16 أيلول، اطلق جورج حاوي ومحسن ابراهيم كممثلين للشيوعيين اللبنانيين جبهة المقاومة الوطنية ضد الاحتلال، ولم تكن المقاومة جديدة على هؤلاء، فقتالهم الاسرائيليين يعود الى أواخر الستينات، لكن اختيارهم لحظة غياب الجميّل عن المشهد لاصدار بيان المقاومة، واللغة الوحدوية اللبنانية التي صِيغَ بها البيان، كانا يحملان رغبة عميقة بتجاوز الصدام الأهلي ومنع عودة الحروب الاهلية عبر توحيد جهود الجميع في معركة إنهاء الاحتلال الاسرائيلي للبنان. كان في تلك الرغبة الدفينة لدى البيان واصحابه الكثير من الأوهام، لكن الكثير من الإصرار على منع استعادة فصول الانقسامات الطائفية والمذهبية التي سهّلت للسوريين والاسرائيليين، وبقية الراغبين، التدخل في لبنان واقتسامه مناطق نفوذ. هكذا لم تتمكن المقاومة الوطنية التي أخرجت الاسرائيليين من بيروت في 26 أيلول ثم من الجبل ومناطق في الجنوب قبل نهاية 1985، من الصمود طويلاً امام القرار الإيراني السوري بوضع اليد عليها وتحويلها الى اداة إقليمية مذهبية تحت اسم طائفي محدد. في مثل هذا الشهر قبل 33 عاماً بلغت عمليات اغتيال شيوعيي المقاومة القياديين الذروة تمهيداً لإحلال "المقاومة" المذهبية بديلاً منها، وكانت اسرائيل أعطت الإشارة قبل ذلك بقليل في غارات جوية على مقر الحزب الشيوعي في الرميلة قرب صيدا فدمرته على رأس عدد من المسؤولين كانوا في داخله.

حزب الله والجدار الإيراني - السوري

كرّس التحالف الإيراني السوري في الحرب ضد العراق قواعد جديدة ستنعكس إرسال ايران عناصر الحرس الثوري عبر سوريا الى بعلبك لإنشاء تنظيم جديد سيعرف باسم "حزب الله". حصل ذلك إثر اجتياح 82 وكان تمهيداً لظهور الحزب بعد عامين أو ثلاثة ثم تحوله الى قوة شيعية رئيسية بعد حروب إلغاء متلاحقة مع "حركة أمل" في بيروت ونواحي الجنوب. دعمت ايران الحزب وتمسكت سوريا "بالحركة" في وقت كان المقلب الآخر من الوطن يشهد صراعاً مريراً على النفوذ والرئاسة في صدامات وحروب مدمرة، وسمح ذلك كله بعودة القوات السورية الى بيروت (87) وسائر الأنحاء التي طردت منها خلال الغزو، واتاح للاسرائيلي ان يستمر في احتلاله مناطق جنوبية، مقيماً جيشاً محلياً خاصاً به تبين في ما بعد انه سيهوي كبناء كرتوني.

كان يفترض ان تعيد صيغة الحل الشامل في الطائف السلطة الى المؤسسات الشرعية وتنهي الوجود المسلح للجيوش والميليشيات على ارض لبنان، بما في ذلك اخراج الاسرائيليين وانسحاب السوريين على مراحل، لكن نظام حافظ الاسد واصل التعامل مع لبنان كمورد اقتصادي ومالي وكورقة تفاوض مع الاسرائيليين تحت عنوان استعادة الجولان، ولقي ذلك دعماً ايرانياً كانت نتيجته إبقاء "حزب الله" تنظيماً مسلحاً وحيداً مختصاً بمقاومة اسرائيل في وقت سلّمَت كل التنظيمات الأُخرى اسلحتها للدولة.

وخلال السنوات اللاحقة حتى عام 2000 طوّرَ الحزب قدراته في سلسلة عمليات ضد المواقع الاسرائيلية، وشنت اسرائيل هجمات واسعة أبرزها عملية 1996 التي كرست "شرعية" رد الحزب بقصف المدنيين الاسرائيليين في حال تعرض المدنيين في لبنان للقصف. كان اتفاق 96 يشبه الى حد كبير اتفاق اسرائيل مع منظمة التحرير في تموز 1981، ففي الحالتين تخلت الدولة اللبنانية عن حضورها لمصلحة تنظيم عامل على ارضها ما يفتح الباب امام مخاطر شتى.

ماذا نفعل هنا؟

بات السؤال الاسرائيلي: ماذا نفعل هنا ؟ يدور على ألسنة القادة الاسرائيليين منذ مطلع التسعينات. لقد تحول جيشهم الى اكياس رمل والبقعة التي يقيمون فيها الى حقل تمرين يجري فيه تطوير فكرة المقاومة "الإسلامية" بوجه " الدولة اليهودية ". لم يتغير شيء في الواقع السياسي اللبناني المحكوم بالتسلط السوري على مقدرات الدولة والحكم، من جهة، وبالاحتلال الاسرائيلي من جهة اخرى، الى ان نضجت في تل ابيب فكرة الانسحاب من طرف واحد.

غير ان هذه الفكرة جرى ربطها حتى اللحظة الأخيرة بما سيقوله حافظ الاسد. لم يفكر ايهود باراك في حينه بمفاوضة الحكومة اللبنانية، بل انتظر لقاء كلينتون الاسد في جنيف في اذار 2000 ليطبخ معه اتفاقاً شاملاً، يكون الجنوب اللبناني جزءاً منه، غير ان الاتفاق لم يحصل، فالأسد المريض أراد ان يورث ابنه تركة كاملة، التحكم بلبنان أحد عناصرها. وهكذا أغلق بني غانتس البوابة الاخيرة وراء قوات الاحتلال المنسحبة في 23-24 آيار 2000، ليصبح بعد 20 عاماً شريكاً في حكم اسرائيل وليستمر "حزب الله" في مقاومته ويتحول الى حاكم للبنان !!!body


MISS 3