قـــراءة فـــي كتــــاب

رحلة الإنسانية... بين تكوين الثروة وعدم المساواة في توزيعها

02 : 00

كانت «عجلات التغيير» هي المحرك الرئيسي للتقدم التكنولوجي منذ بداية الزمن، كما يقول الاقتصادي «أوديد جالور» في كتابه الجديد «رحلة الإنسانية: أصول الثروة وعدم المساواة». ومع ذلك، وقع جنسنا البشري في فخ الفقر. فقد تسبب الابتكار التكنولوجي في حدوث وفورات في إنتاج الغذاء، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع النمو السكاني.

إستمر ذلك إلى أن أدت طفرة المواليد التي يجب إطعامها إلى إلغاء مكاسب الإنتاجية، وعودة مستويات المعيشة إلى حد الكفاف.

مع الثورة الصناعية، وفقاً لـ»جالور»، وصلت قيمة رأس المال البشري إلى درجة أن الآباء اختاروا إنجاب عدد أقل من الأطفال والاستثمار بشكل أكبر في تربيتهم. عندما أعطى التغير التكنولوجي السريع قيمة أعلى للتعليم، أدى هذا إلى زيادة الاستثمار فيه، وتركيز المزيد من الأشخاص على تنشئة أطفال على درجة عالية من التعليم بدلاً من إنجاب عدد كبير من الأطفال، مما أدى إلى انخفاض معدل المواليد، بهدف العيش في مستوى معيشي مرتفع.

مع الوقت أصبح رأس المال البشري أكثر أهمية. ومع اقتراب أجور النساء من أجور الرجال، أصبح ترك القوى العاملة لإنجاب الأطفال أكثر تكلفة بالنسبة لهن، مما أدى إلى انخفاض معدلات المواليد. سمح هذا التحول الديموغرافي للتقدم التكنولوجي بتجاوز النمو السكاني إلى حد كبير، مما أدى إلى إنتاج عالمنا الحالي الوفير من المواد. «رحلة الإنسانية» التي لا مثيل لها في نطاقها وطموحها، تشرح تاريخ البشرية بأكمله على أنه تقدم لا مفر منه من الأدوات البدائية الأولى إلى أجهزة الكمبيوتر في كل جيب. وفي الوقت نفسه، يشرح الكتاب لماذا جعل هذا التقدم بعض أجزاء العالم أكثر ثراءً من غيرها. وفقا لـ»جالور»، يمكن للتنوع أن يعيق النمو الاقتصادي من خلال تقليل التماسك الاجتماعي، ولكنه يمكن أيضا أن يزيد النمو من خلال تشجيع التخصص والابتكار. ولذلك، فإن المناطق ذات المستوى المتوسط من التنوع تتمتع بأعلى مستويات التنمية الاقتصادية. كانت الجغرافيا أيضاً عاملاً مهماً وراء التنمية الاقتصادية. كان الهلال الخصيب، الممتد من شمال مصر إلى الخليج العربي، ويمتلك الحبوب والحيوانات المستأنسة بسهولة أكبر، كما أن غياب الحواجز أمام السفر بين الشرق والغرب في أوراسيا سهّل انتشار التقنيات الزراعية.

ووفقا لـ»جالور»، فإن عدم المساواة العالمية هو نتاج خمسة عوامل (تتناقص أهميتها): مسافة الهجرة، والجغرافيا، والمرض، والثقافة، والمؤسسات السياسية. من الصعب الجدال مع الادعاء بأن ازدهار اليوم ناتج عن التقدم التكنولوجي المتراكم وأن الاستثمار في رأس المال البشري يعزز التطور التكنولوجي. على سبيل المثال، ينبغي طرح السؤال القديم حول السبب الذي جعل أوروبا تصبح أغنى جزء من العالم. ووفقاً لـ»جالور»، أفلتت أوروبا من براثن الفقر في القرن التاسع عشر بسبب زيادة الاستثمار في التعليم وتراجع فجوة الأجور بين الجنسين.

كذلك، تسبب المناخ والجغرافيا في اختلافات أساسية في الأنظمة السياسية. ففي الأماكن التي كانت فيها المحاصيل المحلية مناسبة للمزارع الكبيرة، مثل أميركا الوسطى ومنطقة البحر الكاريبي، تم تحفيز الناس لتبني مفهوم ملكية الأراضي المركزية، مما أدى إلى التوزيع غير المتكافئ للثروة والعمل القسري وحتى العبودية. يزعم الفصل قبل الأخير، بشكل أكثر خطورة، شرح الاختلافات في التنمية الاقتصادية في العالم الحديث من خلال «التنوع السكاني»، بما في ذلك التنوع الجيني والثقافي. ويجادل «جالور» بأن التنوع العرقي كانت له آثار متضاربة: فمن ناحية قلل من مستويات الثقة بين الأشخاص، وأدى إلى تآكل التماسك الاجتماعي، وزاد من حدوث النزاعات الأهلية، وسبب قصوراً في توفير السلع العامة. ولكن من ناحية أخرى، عزز التنمية الاقتصادية من خلال توسيع نطاق السمات الفردية، مثل المهارات والنهج لحل المشكلات. ويرى «جالور» أن المحركات الخفية لتاريخ البشرية تبين لنا كيفية مواجهة التحديات الآن، وعلى رأسها تغير المناخ. الحل هو الرهان على القوى التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه اليوم: انخفاض معدلات المواليد من شأنه أن يقلل من التأثير البيئي لجنسنا البشري، مما يوفر الوقت للإبداع التكنولوجي لهندسة التحول بعيداً عن الوقود الأحفوري.

وينبغي لهذه العوامل مجتمعة أن تسمح بالتقدم في الوقت المناسب للتكنولوجيات الثورية التي ستكون مطلوبة، وتحويل أزمة المناخ هذه إلى ذكرى باهتة في القرون المقبلة. من المحتمل أن بعض الناس على الأقل سينجو من تغير المناخ، وأن أدواتهم بعد 1000 عام من الآن ستجعل أدواتنا تبدو بدائية.

قد يكون «جالور» مُحقاً في أن قصة الإنسانية على المدى الطويل كانت وستظل بمثابة مسيرة متواصلة من التقدم التكنولوجي. وينهي تلخيصه لنفس الحجة هنا بالتأكيد على أن الخصائص الجغرافية والتنوع السكاني هي في الغالب أعمق العوامل وراء حالة عدم المساواة العالمية، والتي تبدو وكأننا لا نستطيع فعل أي شيء حيالها. 


MISS 3