القوانين والهياكل التنظيمية تشكل أهمية بالغة لأنشطة الدولة التي تنتج فوائد على المستوى المحلي. وإذا كان للمواطنين أن يدفعوا باتجاه الإصلاحات والتدخلات التي تساعد في زيادة الكفاءة، وتشجيع الإدماج، وتمكين ريادة الأعمال، والإبداع، والنمو الطويل الأجل، فمن الأهمية بمكان أن يدركوا هذه الحقيقية.
كانت كيفية إيجاد التوازن الصحيح بين الدولة والسوق، وضمان الأداء السليم لكل منهما، موضوع نقاش لقرون من الزمن. لكن الكاتبة وفاعلة الخير الهندية روهيني نيليكاني تقدم إجابة لا تركز على أي منهما. فكما يشير عنوان كتابها الصادر في عام 2022، «Samaaj, Sarkaar, Bazaar (المجتمع، والدولة، والأسواق): نهج المواطن أولا»، يأتي المجتمع قبل الدولة والسوق.
المجتمع المدني السليم
ترى نيليكاني أن المجتمع المستقر الذي يؤدي وظائفه بكفاءة ويتحرى الشمول يشكل ضرورة أساسية، أولاً كغاية في حد ذاته. لكنه يشكل أيضا أهمية بالغة لسبب آخر: فالمجتمع المدني السليم يُـعَـد شرطاً أساسياً للحكم الفعّال وتحقيق نتائج نافعة في السوق. وكما تشرح نيليكاني، تؤدي الدولة والسوق وظائف مهمة لكنّ كلاً منهما عُرضة لارتكاب الأخطاء، واختلالات التوازن، وأوجه القصور، والفشل، مثل الاستيلاء عليها من جانب أصحاب المصالح الخاصة. فقد يؤدي هذا إلى مُـشكلات لا حصر لها، من اتساع فجوة التفاوت إلى النقص في توفير المنافع العامة.
وهنا يأتي دور المجتمع. وفقا لنيليكاني، تأتي الاستجابات الفعّالة الوحيدة لأوجه القصور من جانب الحكومة أو السوق من جانب المجتمع المدني، بما في ذلك القيم، والعلاقات، والمنظمات التي تدعمه. عندما «يختل أداء» المجتمع ــ على سبيل المثال بسبب الاستقطاب العميق أو التفتت والتشظي ــ تتعطل آلية الاستجابة هذه، بل وربما تتوقف عن العمل تماما.
تستحضر حُـجة نيليكاني رؤى أعرب عنها مفكران آخران: رجل الاقتصاد ألبرت أو. هيرشمان، والعالم السياسي روبرت د. بوتنام. يزعم كتاب هيرشمان المؤثر الصادر عام 1970 بعنوان «الخروج والصوت والولاء: استجابات لانحدار الشركات والمنظمات والدول»، أن القوى الفاعلة تعبر عن عدم رضاها عن الأداء الضعيف بطريقتين رئيسيتين. فهي من الممكن أن «تخرج» (لصالح بديل) أو تستخدم «أصواتها» لفرض الضغط من أجل التغيير (بتسليط الضوء على مخاوفها، أو اقتراح الحلول، أو حتى التهديد باتخاذ إجراءات من شأنها أن تؤدي إلى تقويض الأداء بدرجة أكبر).
الخروج من الدولة؟
ولكن برغم أنه ربما يكون من السهل نسبياً «الخروج» من شركة لا تلبي احتياجات الفرد كمستهلك ــ وخاصة إذا كانت البدائل متاحة بسهولة ــ فإن الخروج من دولة ما ليس خياراً واقعياً أو جذاباً دائماً، ولا يكون متاحاً للجميع على قدم المساواة. في عموم الأمر، يتمكن المواطنون الأكثر ثراء أو الأعلى تعليماً من مغادرة بلدانهم ودخول بلدان أخرى بسهولة أكبر. وقد يحاول الأشخاص الذين لا يتمتعون بمثل هذه المزايا أيضاً الخروج من وضع سيئ، ولكن من المرجح أن يكون الأمر أصعب كثيراً؛ وفي بعض الحالات، ربما يضطرون حتى إلى المخاطرة بحياتهم.
قد يكون هذا مفيداً في تفسير تركيز نيليكاني على التفاصيل الدقيقة للمؤسسات التي يمارس المجتمع المدني من خلالها نفوذه على الدولة والأسواق. فهي ترى أننا يمكننا أن نفترض أن «الصوت» يشكل استجابة أكثر قوة وفعالية ويمكن الوصول إليها على نطاق واسع للأداء التنظيمي الضعيف مقارنة بخيار «الخروج».
على نحو مماثل، يركز بوتنام على المجتمع المدني والمجتمع في أميركا. في كتابه «ممارسة البولنج وحيداً: انهيار المجتمع الأميركي وإحيائه»، وكتابه «النهوض: كيف اجتمعت أميركا منذ قرن مضى وكيف نفعل ذلك مرة أخرى»، يحلل تدهور المجتمع على نحو متعدد الأبعاد في الولايات المتحدة، ويقدم وصفا تفصيليا لتدهور مؤسسات المجتمع المدني في العصر الـمُـذَهَّـب (من أواخر القرن التاسع عشر إلى أوائل القرن العشرين)، وإعادة بنائها في فترة ما بين الحربين العالميتين، ثم انحدارها مرة أخرى بعد عقدين أو ثلاثة عقود من الزمن بعد الحرب العالمية الثانية. يرى بوتنام أن هذه المؤسسات يجب أن تُبنى من الألف إلى الياء مرة أخرى.
على الرغم من الاختلافات بينهم، يبدو أن نيليكاني، وهيرشمان، وبوتنام يشتركون في الاعتقاد بأن المجتمع المدني السليم والمتماسك، المدعوم بمؤسسات فعّالة، يشكل شرطاً أساسياً للحكم الفعّال، وتنظيم السوق، والإصلاحات الضرورية للدولة والاقتصاد. ولكن لكي تتمكن هذه الآلية من إنتاج حكم فعّال حقاً، يجب أن يفهم المواطنون أيضاً مسؤوليتهم المدنية، فضلاً عن إدراك ما يلزم لتمكين الدولة (أو غيرها من المنظمات) من تحقيق أولوياتهم. وكما يُظهِر عمل نيليكاني البحثي، فإن هذا الأمر ليس مضموناً على الإطلاق.
النتائج على المستوى المحلي
عندما أجرت نيليكاني استطلاعا للناخبين الهنود حول ما يريدون من ممثليهم المنتخبين، كانت إجاباتهم تركز دائماً على النتائج على المستوى المحلي، وخاصة في ما يتصل بالإصلاح وتقديم الخدمات. ولم يذكر أحد أي شيء عن التشريع. لكن التشريعات الجيدة الصياغة المتقدمة الـفِـكر تشكل ضرورة أساسية لتعزيز ذلك النوع من النمو الشامل الطويل الأجل الذي يعود بالنفع على جميع المواطنين.
ينبغي للهنود بشكل خاص أن يدركوا هذه الحقيقية. فقد استخدمت المحكمة العليا الناشطة في الهند سلطتها لفرض حقوق المواطنين من أجل تعزيز إصلاحات بيئية وإصلاحات أخرى مهمة. علاوة على ذلك، أنشأ قطاعها العام ما يعتبره كثيرون (وأنا منهم) أفضل بنية مالية رقمية في العالم، والتي تشتمل على نظام تحديد الهوية البيومترية و»واجهة مدفوعات موحدة»، تديرها مؤسسة المدفوعات الوطنية في الهند.
هذه البنية ــ التي يتمكن كل المواطنين من الوصول إليها ــ لا تتيح إمكانية الدفع الفوري فحسب، بل وأيضا التحويلات المالية المباشرة من الحكومة إلى الشرائح الأكثر فقراً بين السكان لحظياً من دون وسطاء وبالتالي من دون «تسرب». وهي توفر أيضاً إمكانية نقل البيانات عبر كيانات متعددة، من البنوك إلى المحافظ الرقمية. تسترشد هذه العملية بتشريع ينص على أن كل تدفقات البيانات تتطلب إذناً من الأفراد الذين هم موضوع البيانات. بمجرد منح الإذن، يجب أن تتدفق جميع البيانات، بموجب القانون، مباشرة من موقعها إلى وجهتها المقصودة. وهذا يفسر عدم وجود احتكارات كبيرة في الهند على أساس السيطرة على البيانات.
القوانين والهياكل التنظيمية
الدرس المستفاد هنا هو أن القوانين والهياكل التنظيمية تشكل أهمية بالغة لأنشطة الدولة التي تنتج فوائد على المستوى المحلي. وإذا كان للمواطنين أن يدفعوا باتجاه الإصلاحات والتدخلات التي تساعد في زيادة الكفاءة، وتشجيع الإدماج، وتمكين ريادة الأعمال، والإبداع، والنمو الطويل الأجل، فمن الأهمية بمكان أن يدركوا هذه الحقيقية. وعلى هذا فإن هذا النوع من المجتمع المدني الفعال الذي تتصوره نيليكاني يتطلب المشاركة المدنية، والتمكين، والتعليم، بما في ذلك فهم الحقوق والمسؤوليات التي تنطوي عليها المواطنة.
في عالم أصبح مفتتا داخل البلدان وفي ما بينها، من السهل أن نفقد الأمل في التقدم الاجتماعي والاقتصادي. لكن نيليكاني لا تفقد الأمل، كما أن مخططها الأولي المدروس الواقعي لمجتمع صحي، والذي يتسم بالتفاؤل الـحَـذِر، يستحق الاهتمام والتأمل والمناقشة.
(*) مايكل سبنس، حائز على جائزة نوبل في علوم الاقتصاد، أستاذ الاقتصاد الفخري والعميد السابق لكلية الدراسات العليا للأعمال في جامعة ستانفورد. مؤلف كتاب «التقارب التالي: مستقبل النمو الاقتصادي في عالم متعدد السرعات»