أليكس فاتانكا

إيران لن تتحمّل كلفة أي حرب إقليمية

4 تشرين الثاني 2023

02 : 00

خلال تجمع حاشد في طهران | إيران، 20 تشرين الأول ٢٠٢٣

في ظلّ احتدام الحرب بين إسرائيل وحركة «حماس»، سيبقى دور إيران في هذا الصراع محورياً. لا شكّ في أن طهران تبرّر الحملة المسلّحة ضد إسرائيل، لكنها لن تحاول تصعيد الوضع عبر مواجهة إسرائيل والولايات المتحدة عسكرياً. بل يبدو أن المسؤولين الإيرانيين يعتبرون الحرب لحظة مناسبة لتحسين صورة طهران في العالم الإسلامي وفي الجنوب العالمي عموماً.

بعبارة أخرى، قد تحصل إيران على الفرصة التي تنتظرها. خلال العقد الماضي، تعرّض محور المقاومة الذي تقوده إيران لضربة موجعة في العالم الإسلامي، فقد أنقذت طهران نظام بشار الأسد في سوريا من انتفاضة شعبية. لكن من خلال الاستفادة من القضية الفلسطينية اليوم، تسعى طهران إلى تحسين صورتها وسط المسلمين عالمياً.

في الوقت الراهن، لا تريد إيران خوض حرب إقليمية بل تفضّل إضعاف إسرائيل (والولايات المتحدة طبعاً) من الناحية الدبلوماسية. كان المرشد الإيراني الأعلى، آية الله علي خامنئي، صريحاً حين نقل رسالتَين أساسيتَين: الولايات المتحدة شريكة في حرب إسرائيل ضد «حماس» ويُفترض أن تقطع البلدان الإسلامية علاقاتها مع إسرائيل. لتحقيق هذه الغاية، دعا وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، خلال زيارته إلى تركيا هذا الأسبوع، المسلمين إلى مقاطعة إسرائيل اقتصادياً. إذا نجحت طهران في الخروج من آخر جولة صراع وهي تتمتّع بقوة دبلوماسية متزايدة، فقد يحصل النظام على فرصة أفضل لحلّ تحدّياته الأساسية في مجال السياسة الخارجية، فيجد حلاً للمواجهة النووية القائمة منذ عقود مع الغرب ويتخلّص من العقوبات المكلفة التي فرضها النظام على إيران بسبب تصرّفاته.

لا تتردّد إيران في التحرّك بسبب الشكوك التي تحملها بشأن جهوزيتها العسكرية لمواجهة إسرائيل والولايات المتحدة فحسب، بل لأن الرأي العام الإيراني يبغض محور المقاومة. إذا بالغ قادة طهران في التدخل في هذه الحرب الإقليمية الأخيرة، فقد يواجهون تهديدات محتملة على ميزان القوى السياسية محلياً. لا يملك خامنئي ومختلف القادة في الحرس الثوري الإيراني إلا خياراً واحداً: أخذ توجّهات الرأي العام في الاعتبار حين تقرّر إيران خطوتها المقبلة في حرب إسرائيل و «حماس».

يرتكز الدور الإيراني في هذه الأزمة الأخيرة في الشرق الأوسط على دعم البلد محورَ المقاومة. يشير هذا الشعار إلى استراتيجية الحرب بالوكالة التي تطبّقها إيران، وقد تطوّرت هذه المقاربة منذ بداية الحرب الإيرانية العراقية، بين العامين 1980 و1988، وهي تقضي باستعمال جماعات مسلّحة غير نظامية في المنطقة لتحقيق أهداف الدولة. بدأ هذا المشروع مع «فيلق القدس»، وهو فرع استكشافي من الحرس الثوري الإيراني. بقيادة قاسم سليماني، تحوّل «فيلق القدس» مع مرور الوقت إلى مركز لقيادة شبكة إقليمية متعدّدة الفروع من الجماعات المسلّحة. تميّز هذا الفيلق باستعمال أفكار الإسلاميين الشيعة، لكنه أبقى الباب مفتوحاً دوماً أمام مسلحين إسلاميين سُنّة، مثل «حماس» و»الجهاد الإسلامي الفلسطيني». لاستمالة هذه الجماعة الأخيرة وتوسيع نفوذها، دعت طهران إلى تشكيل جبهة موحّدة لمحاربة الوجود الأميركي في العالم الإسلامي وإطلاق حملة مسلّحة ضد إسرائيل.

وفق الخطاب الرسمي السائد في طهران، كان قرار واشنطن باغتيال سليماني في كانون الثاني 2020 يهدف إلى كبح استراتيجية الحروب بالوكالة التي تقودها إيران ضد الولايات المتحدة وإسرائيل في الشرق الأوسط، وقد فشل الأميركيون في تلك المهمة فيما تابعت إيران مسارها بلا رادع. في النهاية، لا تزال طهران صاحبة القرارات في لبنان، وسوريا، والعراق، واليمن، مع أن خَلَف سليماني، إسماعيل قاآني، لا يتمتّع بشخصية جاذبة بما يكفي. لكن واجه نموذج محور المقاومة بقيادة إيران قيوداً واضحة كمفهوم بحد ذاته وكحلّ عملي للمشاكل اليومية.

على مستوى المفهوم المعتمد، شكّلت «اتفاقيات أبراهام» وفكرة ضمّ إسرائيل إلى النسيج الإقليمي كمسار للسلام اختباراً جدّياً لطهران منذ إبرام تلك الاتفاقيات في العام 2020. في غضون ذلك، يثبت انتشار نوع واحد من الخلل السياسي أو الاقتصادي في البلدان الواقعة في منطقة النفوذ الإيراني أن قدرة طهران على تحويل الاضطرابات الأمنية إلى استقرار مستدام ليست مؤكدة بعد. يكفي أن ننظر إلى وضع اللبنانيين، أو السوريين، أو العراقيين، أو اليمنيين.

وسط شيوع هذا النوع من التحليلات الإقليمية، هاجمت «حماس» إسرائيل في 7 تشرين الأول. كان يصعب الإغفال عن موقف طهران الأساسي ممّا يحصل. رحّب خامنئي بذلك الهجوم، لكنه أصرّ في الوقت نفسه على نَسْب العملية إلى «حماس» وإنكار تورّط إيران فيها.

بعد سنوات على تقديم الدعم الإيراني العسكري والمالي إلى «حماس»، يمكن اعتبار ادّعاء خامنئي صحيحاً جزئياً في أفضل الأحوال: لم تتدخّل إيران مباشرةً في هجوم 7 تشرين الأول، وفق المعطيات المعروفة حتى الآن، لكن لا يمكن إنكار دورها الداعم للقتال. يكفي أن نصغي إلى مواقف «حماس» التي لا تكفّ عن شكر إيران على مرّ السنين.

لكن لا يهتم النظام الإيراني حتى الآن بخوض اشتباك عسكري بل بتسجيل النقاط الدبلوماسية. تبقى مواقف المسؤولين الإيرانيين حول إنشاء «جيش إسلامي» لمواجهة إسرائيل أو مقاطعتها اقتصادياً مجرّد شعارات رنّانة لإعادة فرض طهران كجهة مؤثرة إقليمياً منذ إقدامها على إنقاذ نظام الأسد. يشعر الإيرانيون بالسرور طبعاً لأن الدعم الأميركي والغربي لإسرائيل أعطى نتائج عكسية في العالم الإسلامي وفي معظم دول الجنوب العالمي أيضاً. يُعتبر الموقف الغربي منحازاً، وتزعم طهران أن هذا النوع من المواقف يدحض أي تأكيدات غربية مستقبلية بشأن الدفاع عن قيم جديدة مثل حقوق الإنسان، أو حُكم القانون، أو نظام دولي عادل. تُعتبر الصين وروسيا من أهم رفاق إيران في هذه المهمّة، فهما تتوقان بالقدر نفسه إلى إضعاف القوى الغربية في منطقة الشرق الأوسط.

لطالما توقّع خامنئي نهاية إسرائيل، فهو أعلن في العام 2015 مثلاً أن إسرائيل ستختفي من الوجود خلال 25 سنة، لكنه أصرّ على حصول ذلك على يد الفلسطينيين أو الإسرائيليين بحد ذاتهم، لا الإيرانيين. في غضون ذلك، لا أحد يتوقّع أن توشك إسرائيل على الانهيار اليوم. هل يمكن أن يتعجّب أحد من عدم استعداد خامنئي البالغ من العمر 84 عاماً للمجازفة بصمود نظامه الذي يوشك على نقل السلطة عبر القيام برهان تاريخي وخوض الحرب، حتى لو كان حجم الصراع غير مسبوق؟

قد يكون خيار خامنئي الأساسي واضحاً، ومع ذلك يسود ذعر شديد في طهران من أن تنال منه غطرسته في ظل استمرار الحرب بين إسرائيل و»حماس». يرحّب المتشدّدون والمعتدلون في النظام بهجوم «حماس» باعتباره ضربة قوية ضد صورة إسرائيل التي تطرح نفسها كقوة لا تُقهَر، لكن يخاف المعتدلون رغم كل شيء من أن يجرّ المتشددون البلد إلى الحرب عن غير قصد. ذكرت الصحافة الإسرائيلية أن قاآني أمضى معظم وقته في بيروت، خلال الأسابيع الثلاثة الأخيرة، وهو يستشير قيادة حزب الله بشأن احتمال توسيع نطاق الحرب. في غضون ذلك، أطلق الحوثيون المدعومون من إيران اعتداءات صاروخية باتجاه إسرائيل من الجنوب، تزامناً مع استمرار طلقات «حزب الله» العشوائية من الشمال.

إذا استمرّت هذه النزعة إلى شنّ الاعتداءات على يد أعضاء محور المقاومة، فلا مفر من أن تتراجع قدرة طهران على إنكار تورّطها سريعاً. يصعب اختراق مساحة التنسيق السياسي بين حلفاء إيران وعملائها، حتى أن بعض المصادر يشير إلى وجود «غرفة عمليات مشتركة». مع ذلك، لا يمكن إنكار هوية القيادة الأساسية، ما قد يضع طهران في خط المواجهة إذا قررت واشنطن التصدّي لمحور المقاومة وفروعه الإقليمية. لا يعتبر البعض في طهران هذا السيناريو احتمالاً مستبعداً بل خياراً وارداً. ذهب وزير الخارجية الإيراني السابق، محمد جواد ظريف، إلى حدّ ادعاء أن إسرائيل تريد نصب فخ لإيران لجرّها إلى الحرب مع الولايات المتحدة.

تتماشى حجج المعتدلين الذين يعارضون أي تدخّل إيراني إقليمي مكلف وطويل الأمد داخل النظام ويدعون إلى ضبط النفس في حرب إسرائيل و»حماس» مع معظم التعليقات المنتشرة في وسائل الإعلام. يظنّ هؤلاء المعتدلون أن العقوبات المفروضة على إيران لا ترتبط ببرنامجها النووي حصراً، بل بدعمها جماعات مثل حزب الله و»حماس».

في هذا السياق، يقول محلل إيراني بارز إن طهران ارتكبت خطأً استراتيجياً في العام 2022، حين دعمت روسيا بعد غزوها أوكرانيا، لأن ذلك القرار ساهم في القضاء على احتمال عقد اتفاق نووي جديد بين طهران والقوى الغربية. يُفترض ألا تُكرر إيران الخطأ نفسه هذه المرة، برأي ذلك المحلل، بل يجب أن تلعب أوراقها بطريقة تضمن تحسين سمعتها على مستوى العالم.

لا يسمح النظام في طهران بإجراء استطلاعات حول مواقف الناس من حرب إسرائيل و»حماس»، لكن تكشف الصورة التي تعكسها الصحافة الحرّة في الشتات الإيراني أن الإيرانيين العاديين يفترضون وجود رابط مباشر بين دعم طهران محور المقاومة ومكانة البلد كدولة منبوذة. في المقابل، تفضّل وسائل الإعلام الموالية للنظام أن تعتبر العدائية الإيرانية تجاه إسرائيل جزءاً من الثوابت التاريخية. لكن لا تبدو هذه الجهود مقنعة بأي شكل.

تتحمّل إيران مشقات كبرى في هذه الفترة. أصبح اقتصادها في وضعٍ صعب، ويسود شعور عام بخيبة الأمل، وهو يتّضح في نزعات مثل الهجرة التي بلغت مستويات قياسية. لهذا السبب، يُفترض أن يراعي خامنئي والجنرالات المسؤولون عن تنفيذ استراتيجية طهران الإقليمية في الحرس الثوري الإيراني توجّهات الرأي العام. قد تؤدي أي حرب عرضية مع إسرائيل والولايات المتحدة إلى إعادة إحياء حركة الاحتجاج الإيرانية وإنشاء تصدّعات جديدة في صفوف النظام. حتى أنها قد تكبح خطط خامنئي الرامية إلى إطلاق عملية منظّمة لاختيار خَلَفه.

لا أحد يعرف إلى أي حد ستطول الحرب الإقليمية التي تشمل إيران والولايات المتحدة، فقد يمتد هذا الصراع على سنوات. رغم قوة التزام خامنئي بمحاربة إسرائيل والولايات المتحدة معاً، لا يمكن اعتباره انتحارياً بأي شكل. سبق وساعدته التحليلات التي تقارن بين التكاليف والمنافع المتوقعة للبقاء في السلطة طوال 34 سنة. لا شك في أنه ارتكب بعض الأخطاء السياسية على مر السنين، لكن لا شيء يضاهي الانجرار نحو الحرب مع الولايات المتحدة. سيجازف في هذه الحالة بإضعاف فرص صمود الجمهورية الإسلامية.


MISS 3