حسان الزين

خريطة توزّع القوى السياسية في أوروبا والولايات المتحدة إزاء الحدث الفلسطيني

زياد ماجد: أبعاد المواقف الغربية من "حماس" وإسرائيل

4 تشرين الثاني 2023

02 : 00

زياد ماجد

منذ هجوم حركة «حماس» في 7 تشرين الأول 2023، والحرب الإسرائيلية على غزة وأهله، وما يرافقهما من انحياز غربي لإسرائيل، ينتشر خطاب صدامي عربي وإسلامي - غربي. ويأتي ذلك في ظل صراعات دولية وإقليمية ومنافسة أقطاب جدد للقطب الأوحد في النظام العالمي القائم، الولايات المتحدة الأميركية. على خلفية ذلك، ولتحليل الوضع، نحاور زياد ماجد، أستاذ العلوم السياسية ومدير برنامج دراسات الشرق الأوسط في الجامعة الأميركية في باريس. وبينما لا يستغرب ماجد «الانحياز الغربي لإسرائيل»، يتوقف عند «المستجد»، وهو «تماهي المواقف الرسمية الأوروبية مع المواقف الأميركية، بعدما كان هناك تمايز أوروبي يحاول أن يُبقي نوعاً من التوازن في المقاربة الديبلوماسية وفي التذكير بجذر المشكلة».



ما هي أسباب الانحياز الغربي لإسرائيل، ونبدأ بتماهي المواقف الأوروبية الرسمية مع الموقف الأميركي؟

لتفسير ذلك يمكن التوقف عند ثلاث مسائل. الأولى ترتبط بحرب أوكرانيا وباكتشاف أوروبا مدى حاجتها إلى أميركا في ما يخص أمنها القاري وقدرتها على التعامل مع متغيرات وتحديات عسكرية كتلك التي تفرضها عليها روسيا. فقد بدت أوروبا منكشفة إلى حدّ بعيد أمام التحديات الروسية من دون دعم أميركي.

المسألة الثانية ترتبط بصعود العنصرية تجاه المسلمين بموازاة صعود تيارات أقصى اليمين أو اليمين المتطرف في معظم دول أوروبا الغربية، وليس في وسط أوروبا أو شرقها فحسب (المجر وبولونيا وسلوفاكيا)، ووصول البعض منها إلى أبواب السلطة. ففي فرنسا، وصلت مارين لوبين للمرة الثانية إلى الدور الثاني في الانتخابات الرئاسية. في ألمانيا، تقدّم الخطاب اليميني المتطرف، ولو لم يبلغ السلطة، وكذلك الأمر في النمسا. وفي الدول الاسكندينافية، تقدم اليمين المتطرف على نحو مفاجئ بعد عقود من سيادة الاشتراكية الديمقراطية أو الديمقراطية الاجتماعية ويشارك في السلطة في السويد. وتقدم في هولندا وبلجيكا أيضاً، من دون أن ننسى وصول تحالفه إلى السلطة في إيطاليا.

المسألة الثالثة التي أدت برأيي إلى التبدل في السلوك السياسي الأوروبي تجاه المنطقة تستند إلى الجهد الإعلامي الذي بذله الإسرائيليون من جهة والمؤيدون لهم من جهة ثانية في إيجاد تماهٍ كامل بين عملية حركة «حماس» في 7 تشرين الأول 2023، لا سيّما في الشقّ الذي استهدف المدنيين خلال تنفيذها (في الحفلة الموسيقية وفي الكيبوتزين المستهدفين) وبين عمليات 11 أيلول 2001 في نيويورك و13 تشرين الثاني 2015 في باريس. هذه المحاكاة، بمعزل عن اختلاف الظروف والملابسات، نجحت في دفع كثيرين إلى الظنّ والقول إن من نفّذوا العملية في «جدار غزة» يُشبهون تماماً من نفذوا العمليات ضدنا في مدننا. بالتالي، فإن عدونا مشترك، وهو تيارات الإسلام السياسي أو الإسلام الجهادي الحاضرة بيننا أيضاً.

لكن ثمة من كان يقول إن العاملين والعاملات في وزارات الخارجية في كثير من الدول الغربية، لا سيّما من الجيل الجديد المتحرّر من أعباء قديمة ترتبط بمجازر الحرب العالمية الثانية بحق اليهود أو بالمخيّلات الكولونيالية، باتوا أكثر توازناً تجاه الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي. هل في آليات اتخاذ القرار هناك عناصر تُضاف إلى ما قلته بشأن أسباب التماهي الأوروبي الأميركي في الموقف ممّا يجري؟

أجل، من الصحيح القول إنه كان لافتاً في السنوات العشر الماضية تحسّن المواقف الدولية تجاه القضية الفلسطينية على الرغم من ضعف التمثيل الفلسطيني وانقسامه بين السلطة و»حماس». ويصح القول إن جيلاً جديداً من الديبلوماسيين والعاملين في وزارات الخارجية في العديد من الدول الغربية يبدو أكثر توازناً في مواقفه تجاه فلسطين من مواقف الجيل السابق. لكن الصحيح أيضاً هو أن قناعة ترسّخت في السنوات العشر الماضية لدى الإدارات الغربية مفادها أن القضية الفلسطينية لم تعد مركزية عربياً، وأن التطبيع بين عدد من الدول العربية وإسرائيل (البحرين والإمارات ثم المغرب والسودان، إضافة إلى التواصل السعودي مع إسرائيل ووجود اتفاقات سابقة بين مصر والأردن وإسرائيل) هي إثبات على ذلك، وأن الصراع الفعلي في المنطقة صار بين دول الخليج العربي وإيران. فإذا بهذه القناعة الموهومة تصطدم بحقائق مروّعة اليوم تُثبت أن لا سلام في المنطقة ولا استقرار من دول حلّ يضمن حداً مقبولاً من الحقوق الفلسطينية.

وفي ما يخصّ آليات اتخاذ القرار، يبدو من المشهدين الأميركي والفرنسي مثلاً، أن البيت الأبيض وقصر الإليزيه هما الأكثر حسماً لحظة اتخاذ القرارات من وزارتي الخارجية في البلدين. وهذا إذ كان مألوفاً في الحالة الأميركية، فإنه في الحالة الفرنسية يبدو منحى آخذاً في التزايد منذ عهد نيكولا ساركوزي بين العامين 2007 و2012. وهذا يعني خروج آليات اتخاذ القرار من مسارات ديبلوماسية تغذّيها خبرات المعنيين في وزارة الخارجية وآراء الديبلوماسيين والتشاور بينهم وبين الرئيس حول الموقف ومصطلحاته، وتحوّلها إلى مادة يناقشها ويقرّها محيط الرئيس المباشر، المشكّل من مستشاريه ومن أفراد نافذين من أصدقائه أو من مجموعات ضغط أو مراكز تفكير واستطلاع رأي من خارج جسم الدولة. وهذا ما يسمّيه البعض بخصخصة قرارات السياسة الخارجية. وهو ما يفسّر بروز أخبار عن استياء ومراسلات في أوساط ديبلوماسية ولدى موظّفين في الخارجيّتين الأميركية والفرنسية يرون في مواقف جو بايدن وإيمانويل ماكرون انحيازاً لحكومة بنيامين نتنياهو.

هل يمكن أن تعرض لنا خريطة توزّع القوى السياسية الغربية إزاء الحدث؟

بالنسبة إلى أميركا، يمكن القول إن الفرز ليس مستنداً إلى القسمة التقليدية بين جمهوريين وديمقراطيين. فأولاً ثمة تمايزات داخل كل حزب، وإن كانت الترامبية الشديدة التأييد لإسرائيل قد جرفت الجمهوريين نحو مواقف أكثر تشدّداً أحياناً من مواقف السياسيين الإسرائيليين أنفسهم. وفي أوساط الديمقراطيين، ثمة جناح يساري مدعوم من الناشطين الأصغر سناً، يعترض على الأداء الرسمي لقادة الحزب ولإدارة بايدن في تأييد الحكومة الإسرائيلية. لكنه يبقى أقلّوياً. الأكثر وضوحاً في مدن أميركا هو بروز جيل من الطلاب الجامعيين والأكاديميين المستنكرين للخطاب الرسمي والمناصرين لحقوق الفلسطينيين، وبروز تقاطعات بين حركات اجتماعية مناهضة للعنصرية والتسلّح وأُخرى من خلفيات يهودية تقدّمية أو من سياسيين وأكاديميين من أصول عربية ترفض الموقف الأميركي المغطّي للمذابح التي ترتكبها إسرائيل وتنادي بوقف النار ورفع الحصار عن غزة.

يُضاف إلى ذلك أن مواقف المنظمات الحقوقية الأميركية والأممية الموجودة في أميركا نقديّة حادة تجاه السياسات والجرائم الإسرائيلية ولها أثر في تكوين وعي قانوني لدى نخب جامعية وبحثية تنادي به كمرجع للتعامل مع الأحداث. على أن تأثير ذلك على آليات اتخاذ القرار ما زال محدوداً.

وفي أوروبا، تبدّلت بعض معالم الخريطة السياسية. فإذا تحدثنا عن بلد مثل فرنسا كانت له خصوصية في العلاقة مع العالم العربي، نقول إننا أمام خمس عائلات سياسية كبرى، تسري قسمتها إلى حدّ بعيد على بلدان أوروبا الغربية (باستثناء بريطانيا وألمانيا).

هناك أقصى اليمين أو اليمين المتطرف الذي صار واسع الحضور تغذيه أحياناً رؤوس مال تعتبر أنها في معركة حضارية مع الإسلام والمسلمين الوافدين إلى أوروبا. ومراجع هذا اليمين المتطرف مختلفة، لكن نقطة التقاطع بين تياراته هي العداء للهجرة، وللمؤسسات الدولية الكبرى، بما فيها الاتحاد الأوروبي. وبين أطيافه ثمّة من وفَد من مجموعات فاشية أو نيونازية، وثمة من التحق به قادماً من اليمين التقليدي أو من بيئات ريفية كاثوليكية محافظة، وثمة من وجد فيه تنفيساً عن حقده وغضبه على النخب الباريسية وما يسمّيه «الاستبلاشمنت». وغالبية هؤلاء، إن لم نقل جميعهم، تؤيّد الآن إسرائيل، لكنها في مفارقاتها وتناقضاتها تحافظ أحياناً على نظريات تآمر ما زال جوهرها معادياً للسامية، وتنتقد أميركا الملوّنة والمعولمة وتفضّل عليها روسيا الأكثر «بياضاً» و»مسيحية».

العائلة الثانية هي ما يُسمى اليمين التقليدي (أو اليمين الجمهوري في الحالة الفرنسية). وهو يمين حَكَمَ لفترات طويلة، هواجسه بشكل خاص اقتصادية، وصلاته وثيقة بالمؤسسات الدولية وبمؤسسات الاتحاد الأوروبي، وخطابه مناصر لإسرائيل انطلاقاً من ثقافة ما زالت الكولونيالية ركناً من أركانها والتحالف مع أميركا ضرورة حيوية فيها والهوية «الغربية» رافعة لها. واليمين المذكور يخشى فقدان مزيد من الحضور لمصلحة اليمين المتطرّف فيزايد أحياناً عليه في قضايا الهجرة والإسلاموفوبيا.

العائلة الثالثة هي تلك المتحدرة ممن يطلقون على أنفسهم لقب الوسط، أي أنها مع حرية رؤوس المال والاستثمار، لكن مع عقلنتها بخيارات وسياسات اجتماعية. وتتميز هذه العائلة عن أطياف اليمين بمواقف تحاذر المنحى العنصري ولا تخضع لابتزاز اليمين المتطرّف. وهي تفترق عن اليسار في القراءات الاقتصادية وفي مسائل مجتمعية ترتبط بالمواقف النسوية والبيئية. وهي موجودة في أكثر من بلد أوروبي، وممثلة في البرلمانات، وموقفها اليوم من الأكثر توازناً تجاه الحرب في غزة. ويذكّر الناطقون باسمها بضرورة الوصول إلى اتفاق سياسي وإلى نهاية للاحتلال، لأن «العنف ليس حلاً في ذاته».

العائلة الرابعة هي الاشتراكيين والاشتراكيين الديمقراطيين، التي باتت تصنف في خانة يسار الوسط، وفقدت كثيراً من بريقها في العقود الماضية لكنّها ما زالت تمتلك قدرة تمثيل في الانتخابات المناطقية والتشريعية. ولهذه العائلة إرث في الحكم أو في التأثير على التشريعات، ومنها انبثقت نخب حَكمت لفترات طويلة. وهذه العائلة في معظمها، في هذه المرحلة، قريبة إلى الموقف الأميركي في دعم إسرائيل، وفي أوساطها تيارات كانت تاريخيّاً قريبة من الصهيونية الاشتراكية أو التيارات الصهيونية اليسارية. ويذكّر موقف هذه الأطياف بأن هناك ضرورة لحل سياسي، وبأن العنف ليس الإجابة الوحيدة. ولكنها تقول ذلك بعد تكرار لازمة «حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وتتجنّب انتقاد فظائعها وجرائم حربها.

العائلة الخامسة هي التي صار يُصطلح على تسميتها بأقصى اليسار، ولو أن فيها تمايزات كثيرة. فهناك في صفوفها تيارات وافدة من أحزاب شيوعية، أو أحزاب شيوعية لم تغير اسمها، وفيها من تركوا أحزاباً اشتراكية لاعتبارهم أن هذه الأحزاب نحت نحو الوسط أو اليمين، وفيها مجموعات تروتسكية، وحركات اجتماعية صاعدة تعتبر قضايا الحريات الفردية والتسامح ومعاداة العنصرية والمسائل النسوية والبيئية أولويات في عالم اليوم، وتطلّ من خلالها على القضايا الأخرى بما في ذلك الاقتصاد والاجتماع السياسي. يُضاف إلى هذه المكونات حركات منبثقة من حملات نقابية أو مطلبية. وتتميّز هذه المكوّنات جميعها، بمعزل عن أحجام التمثيل الشعبي (الذي يبلغ حدوداً واسعة في حالة «فرنسا العصية» أو «بوديموس» الإسبانية وغيرهما)، بالحيوية والحضور في تنظيم الأنشطة الثقافية والمواطنية. وهي برزت بمواقفها الرافضة لتأييد إسرائيل مذكّرة بارتكابها جرائم ضد الإنسانية وأبدت مناصرة لحقوق الفلسطينيين. لكنها اختلفت بشأن الموقف المصطلحي من «حماس». البعض أطلق عبارة الإرهاب على عمليتها الأخيرة أو وصمها بالتنظيم الإرهابي، والبعض الآخر رفض المصطلح ولَو أنه دان قتل المدنيين الإسرائيليين واعتبره جريمة حرب.

وعلى مسافة وثيقة من مكوّنات هذه العائلة الخامسة نجد «الخضر» أو البيئيين المشاركين في الدعوة إلى تظاهرات تضامن فرنسية وأوروبية اندمجت في فعالياتها أوساط اجتماعية متحدّرة من الهجرات العربية والمغاربية والأفريقية، أو من المواطنين المسلمين في أكثر من دولة.





هل نحن إزاء مشهد جديد في العلاقات الدولية؟

يمكن لواحدنا أن يراقب تبدلاً على صعيد العلاقات الدولية والتحولات والتموضعات منذ ما قبل حرب أوكرانيا، ولكن ذلك ترسخ خلال تلك الحرب، وبعض ملامحه نراها مجدداً الآن. بمعنى أن أميركا ودول أوروبا الغربية، ونتيجة عوامل كثيرة قديمة وجديدة ترتبط بازدواجية المعايير وبأولويات إقتصادية وباستغلال ثروات وطاقة، لم تعد قادرة على فرض اصطفافات سياسية في أميركا الجنوبية وأفريقيا وآسيا على النحو الذي تريده، ولم تعد المسألة الديمقراطية تكفي لإبقاء بريقها ووعودها بحياة أفضل وبتعاون إقتصادي أمثل. وقد مكّن ذلك الصين وروسيا من إقناع دول أو منظومات إقليمية من جنوب المعمورة بالتحالف معهما لمواجهة الهيمنة الغربية، ولتقديم بدائل من تلك الهيمنة. وبدا ذلك واضحاً في التصويت في الأمم المتحدة على القرارات الخاصة بأوكرانيا، وبدا أيضاً من المواقف تجاه فرنسا والأوروبيين في أكثر من دولة أفريقية. وهو الآن لا يأخذ الشكل نفسه في ما يخص القضية الفلسطينية، لكنه يُظهر أن الدعم الغربي اللامحدود لإسرائيل يواجَه إما بنوع من الدعم للفلسطينيين أو بعدم مجاراة للعواصم الغربية في ما تريده.

وما يمكن أن يكون مضراً للفلسطينيين في هذه التبدّلات، على الرغم من أهمية الحصول على أي دعم ممكن، هو أن تبدو قضيتهم وكأنها ملتصقة بمعسكر أو بتحالفات تقودها دول مثل الصين وروسيا لا تختلف في سياساتها الخارجية وفي تجاوزاتها القانون الدولي وسعيها إلى الهيمنة عن أميركا ودول الغرب، لا بل تتخطاها في تعاملها العنيف مع الخصوم، ناهيك بالفارق في ما يتعلّق بالحريّات الداخلية، إذ ما زالت الأصوات الاعتراضية قائمة وممكنة في الغرب، في حين أنها مقموعة حدّ الإعدام والمحاصرة والنفي في الحالتين الروسية والصينية.

هناك إذاً تموضع جديد لعدد من الفاعلين في العلاقات الدولية، وهناك خريطة جديدة تُرسم، ولو إنها ليست نهائية، لأن الأمور يمكن أن تختلط أحياناً وأن تتناقض المواقف تجاهها أو أن تتداخل.

هل تعتبر أن المواقف الغربية الداعمة لإسرائيل وغير العابئة بالجرائم التي ترتكبها في غزة وفي الضفة الغربية والقدس الشرقية ستؤثر سلباً في العلاقات بين الغرب والعرب والمسلمين؟ وماذا عن أصوات المثقفين تجاه ما يريد البعض تصويره بصراع حضاري؟

ثمة قسمة متجددة الآن في الخطاب المهيمن، وتتحدث عن حضارتين تتواجهان بما يذكر بما جرى بعد 11 أيلول 2001 حين قال جورج بوش الإبن بما معناه «إما نحن وإما هم» و»من ليس معنا فهو مع الإرهاب»، وحين قسّم أسامة بن لادن العالم إلى فسطاطين.

تنتمي هذه القسمة بمعادلتيها إلى فكرة أن الحضارات متنابذة وأن الكتل البشرية في كل «حضارة» تتماهى ولا فوارق ثقافية واجتماعية وسياسية داخل مكوّناتها، أي أنها تدمج البشر ضمن كتل متراصة صمّاء تُظهرهم في مواقع متنابذة ومتضادة تلقائياً، وكأن الهويات والثقافات هي ما يسبب ذلك من دون اعتبار أن الهويّات مركّبة والثقافات متحركة وأن الأمور تتبدل وتتغير ولا يوجد ماهيات تحسم الموضوع أو تفرض نفسها على الناس بشكل دائم وتلقائي.

ويُخشى أن هذا الخطاب يتقدم من جديد في ظل الحرب الإسرائيلية المدعومة غربياً على غزة، بعدما انحسر قليلاً عقب كوارث حربي أفغانستان والعراق.

ولا شكّ في أن بعض القوى الإسلامية وبعض الأنظمة التسلّطية في العالمين العربي والإسلامي، على اختلاف خصائصها وسياساتها، تشحذ الهمم من أجل أن تسود القسمة المذكورة والمعطى الصدامي بين الحضارات. فهذا يُعينها على توظيف خطاب المظلومية للاستقطاب ولتجديد نفسها، ويُعينها على الهروب من تحدّيات سياسية واقتصادية وثقافية تفشل في مواجهتها نحو تبسيطية مضادة لتبسيطية المقلب الآخر. وأظن الأمر سيدوم لفترة وستكون أضراره كبيرة.

لكن، كل ما ورد يجب ألا يحجب وجود أصوات وديناميات ترفض القسمة المذكورة ومنطقها، يطلقها مثقفون هنا وهناك، وهذا دورهم، وتتحدث عن الأخوّة وعن التضامن والتكافل والمساواة وكونية القيم ووحدة المعايير. والأصوات والديناميات هذه سائدة مثلاً في الأوساط الجامعية والبحثية والحقوقية، لكنها غير مؤثّرة كفاية بعد على التمثيل السياسي في البلدان التي تُتيحه أو على الثقافة السياسية في البلدان المُقفلة سبل التمثيل فيها.

القضية الفلسطينية وصراع الحضارات

يرى زياد ماجد أن «المرحلة شديدة التعقيد، يصعب التعويل فيها على أطراف أو دول أو تحالفات محدّدة للعب أدوار إنقاذية». يقول: «من ناحية، أعادت عملية حماس في 7 تشرين الأول القضية الفلسطينية إلى محور النقاشات والمفاوضات الإقليمية والدولية بعد تغييب تصفوي لها منذ ما سمّي اتفاقات إبراهام. ومن ناحية ثانية، أفقدت العملية القضية الفلسطينية دعماً في بعض أوساط الرأي العام الغربي (غير العنصري وغير الداعم أصلاً لإسرائيل) بسبب صور المدنيين الإسرائيليين المقتولين، ولو أن الهمجية الإسرائيلية والمجازر المُرتكبة في غزة بدأت تفرض على الإعلام تغطيةً لها بما سيؤثّر مع الوقت في الرأي العام إياه. ومن ناحية ثالثة، لا أفق سياسياً واضحاً يمكن الحديث عنه في ظل موازين القوى وفي ظلّ أجندات دولية (من بحر الصين إلى أوكرانيا، ومن الاقتصاد إلى الأمن) وعربية (من التطبيع والاستقرار القمعي إلى الصراع مع إيران) اقتحمتها القضية الفلسطينية منذ أسابيع على نحو مفاجئ وغير مرغوب فيه».

يضيف: «في الوقت نفسه، يمكن أن تُفضي الحرب التدميرية في غزة وانفلات عنف المستوطنين المدعومين من الجيش ومن وزراء فاشيين في حكومة نتنياهو (بن غفير وسموتريش تحديداً) في الضفة الغربية والقدس، إلى تزايد الدعوات الإقليمية والدولية لترتيبات سياسية توقف العمليات العسكرية والقصف، وتحول دون التهجير الفلسطيني الكبير المقصود إسرائيلياً (إن ظلّت مصر رافضة له)، وتدعو إلى رفع جزئي للحصار وإدارة جديدة لمعبر رفح، وإلى أدوار أردنية ومصرية ووساطات قطرية وتركية إضافية لتبادل أسرى ورهائن، وربما إلى تبدّلات في الخريطة السياسية الإسرائيلية يصعب على نتنياهو البقاء متسيّداً فيها».

ويعتقد أن «الأحوال السياسية الفلسطينية، بعد ذلك كلّه، لن تكون بالضرورة في وضع أفضل مما هي عليه اليوم. فلا حماس ولا السلطة الوطنية ستقدران على ادّعاء تمثيلية أو مشروعية، وليس من المتوقّع أن تُفرج إسرائيل مثلاً عن قادة مثل مروان البرغوتي أو سواه ممّن يملكون صدقية كان يمكن الركون إليها وتعزيزها لقيادة الفلسطينيين».

وهذا يعني، وفقه، أن «لا حلول سياسية في المدى المنظور أبعد من تجميد الفظائع المرتكبة في غزة. وهذا يطرح العديد من التحدّيات، ما يمكنني أن أدلي به حولها، ومن منطلق إقامتي في الغرب (وانتمائي بمعنى ما إليه)، يرتبط بالمساهمة في التصدّي إعلامياً لنزع الأنسنة عن الفلسطينيين الذي بات مرادفاً للعنصرية، والسعي للعمل على إعادة بناء خطاب تحرّري كان جيل من المثقفين والقادة السياسيين الفلسطينيين قد نجح إلى حدّ بعيد في إنجازه، وربطه بالمسائل الحقوقية وبالقانون الدولي وفق معايير لا تقبل بأي ازدواجية، خصوصاً في ما يتعلّق بربط مقاومة الاحتلال بالكفاح ضد الاستبداد وأنظمته. والأهم ربما، المشاركة في بناء تحالفات مع قوى سياسية وحركات اجتماعية ونوادٍ طلابية ونقابات وحملات معادية للعنصرية، بعيداً من فخّ صراع الحضارات ومن الهويات الدينية التي تبقى حقاً فردياً لا مساومة عليه، ولكن لا مشروعية أو مصلحة في تحويله إلى منطلق فرز أو صياغةٍ لمشاريع لا تنوّع ولا اختلاف ولا رحابة وحرّية فكرية ومسلكية في طيّاتها».

العنف وحمايته

يلاحظ زياد ماجد «عودة مشهدية الفظاعة أو العنف المهول في صراعات عالم اليوم». ويروي «أننا بعد فاصلين من الوحشية عرفناهما بُعَيد نهاية الحرب الباردة، في بداية التسعينات مع الحرب اليوغوسلافية والمجازر بين الهوتو والتوتسي، وفي بداية الألفية الثانية بعد 11 أيلول وحربي أفغانستان والعراق وحرب الشيشان، مررنا حتى العام 2012 بمرحلة بدا فيها أن كمّ العنف تراجع وأن العديد من الصراعات المتواصلة تقلّص مدى القتل المفرط فيها، إلى أن بلغنا مستوى من الفظاعة ربما غير مسبوق منذ عقود طويلة في الحرب السورية. تلا ذلك حروب شديدة الأذية، في اليمن وليبيا ثم في السودان، وصولاً إلى حرب أوكرانيا الدائرة منذ قرابة العامين وإلى المجازر المرتكبة بحق أقّليات مسلمة في بورما أو القمع الإجرامي المتواصل للإيغور في الصين».

وها نحن، يقول، «نصل إلى ذروة فتك الأسلحة التقليدية المتطوّرة والأشد تدميراً في التاريخ ببيوت المدنيين الفلسطينيين وأحيائهم في غزة».

ويلفت إلى أن «ازدواجية المعايير برزت على الدوام تجاه هذه الأحداث وفظاعاتها، بما يُشير إلى مأزومية النظام العالمي وانعكاس ذلك تعطّلاً في أداء الأمم المتحدة والمؤسسات الحقوقية تجاه حالات الحروب والنزاعات حيث تُنتهك الاتفاقات المُبرمة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية ويُداس عليها من قبل الأطراف القوية أو الحاصلة على غطاء من الأقوياء. وليس أكثر مِن رصدِ استخدام أميركا وروسيا والصين حق النقض (الفيتو) دلالةً على معنى التعطيل لمجلس الأمن وتداعياته، إذ صار غالباً ومداولةً لمنع إدانة جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية ومنع كل تدخّل أممي تجاهها. ونتيجة ذلك: إفلات المرتكبين من العقاب وحصانتهم بما يعزّز ثقافة الانتهاك ويزيد من الغضب والمظلوميات المتفجرة».

ويدفع ذلك ماجد إلى القول إنه «من دون التفكير جدياً في إصلاح نظام مجلس الأمن والنظام الدولي عامة، لن نصل إلى استقرار أو تراجع لفظاعة العنف المتنقّل الذي نعيش واحتمالات تكراره. وهذا طبعاً شأن معقّد وصعب تفرضه موازين قوى هي غير متوافرة لا راهناً ولا في المدى المنظور، ولو أن أوساطاً حقوقية وأكاديمية من مختلف مناطق العالم صارت تطرحه باستمرار».


MISS 3