مارتن إنديك

حكومة إسرائيل الجديدة... أفعى متعددة الرؤوس!

30 أيار 2020

المصدر: Foreign Affairs

02 : 00

في الأساطير اليونانية، يشير حيوان الهيدرا إلى أفعى مائية عملاقة لها تسعة رؤوس ويكون واحد منها فقط خالداً. تبدو الحكومة الإسرائيلية الخامسة والثلاثون، التي أقسمت يمين الولاء في 17 أيار 2020، شبيهة بأفعى الهيدرا! لكن بدل الرؤوس التسعة، تتألف هذه الحكومة من 36 وزيراً، و16 نائب وزير، و"رئيس حكومة بديل". وعلى غرار الهيدرا أيضاً، يبدو أنها تشمل رأساً خالداً: إنه بنيامين نتنياهو! لقد بدأ هذا الأخير ولايته الخامسة كرئيس للحكومة، وهو يشغل هذا المنصب بوتيرة متواصلة منذ العام 2009.

احتاج نتنياهو هذه المرة إلى ثلاثة انتخابات على مر 18 شهراً لتشكيل حكومة. في كل واحد من تلك الاستحقاقات الانتخابية، فشلت كتلته المؤلفة من أحزاب دينية ويمينية في تأمين الأغلبية اللازمة. لم يتمكن نتنياهو من تشكيل هذه الحكومة، بعد محاولته الثالثة، إلا عبر التعاون مع بيني غانتس، زعيم كتلة المعارضة اليسارية الوسطية. كانت المناورة التي قام بها متقنة لأن غانتس تخلى عن وعده بألا يشارك في حكومة يرأسها نتنياهو بسبب اتهامه بتلقي الرشاوى والاحتيال وخيانة الثقة.

كان غانتس يستطيع تشكيل حكومة مؤلفة من الأقليات بالاتكال على دعم خارجي من "القائمة العربية المشتركة" التي أوصته باتخاذ هذه الخطوة. لكنه تعهد بعدم فعل ذلك أيضاً. وحين اضطر للاختيار بين الخطوتَين، اختار نتنياهو على اعتبار أن الحالة الطارئة التي سببتها أزمة "كوفيد - 19" تتطلب حكومة وحدة وطنية: هكذا برّر خيانته لناخبيه! لكنه دفع ثمناً باهظاً لأن قراره أثار انقساماً داخل "حزب أزرق أبيض" الذي ينتمي إليه. وقاد شريكه السابق يائير لابيد 18 شخصاً من أصل 33 عضواً من الحزب في الكنيست إلى معسكر المعارضة.

اضطر نتنياهو أيضاً لدفع ثمن باهظ. فوقّع على اتفاق مع غانتس، وسرعان ما تحوّل إلى تشريع يُحدد مدة الحكومة بثلاث سنوات ويعطي حق نقض متبادل للطرفين في جميع القرارات السياسية. بموجب هذا الاتفاق المُلزِم ظاهرياً، سيشغل نتنياهو منصبه طوال 18 شهراً ثم يسلّم رئاسة الحكومة إلى غانتس في 17 تشرين الثاني 2021 كي يحكم طوال 18 شهراً بدوره. في غضون ذلك، سيكون غانتس "رئيس الحكومة البديل": إنه منصب مستحدث وسيشغله نتنياهو حين تحصل المداورة بينهما.

يحصل كل زعيم على 18 وزارة، مع أن نتنياهو يملك 52 مقعداً في كتلته بينما تقتصر مقاعد غانتس على 17. هذا التوزيع خلق وضعاً غريباً لأن غانتس حصل على وزارات تفوق حصته في الكنيست، بينما حصل نتنياهو على وزارات قليلة نسبةً إلى حصته.

لا مفر من أن ينشئ اختلال التوازن البنيوي بين الكتلتَين توتراً كامناً، إذ يتوق أتباع نتنياهو اليمينيون في حزب "الليكود" إلى التخلص من شركائه "اليساريين"، لا سيما إذا حافظت الاستطلاعات على نتائج مفادها أن الكتلة اليمينية الدينية تستطيع تأمين الأغلبية وحدها في أي انتخابات جديدة. تلك الاستطلاعات تُرجّح ميزان القوى لصالح نتنياهو من الناحية النفسية أيضاً لأن حزب غانتس سيتراجع على الأرجح، إذا لم يتفكك بالكامل، في الجولة المقبلة. إنه مصير معظم الأحزاب الوسطية الإسرائيلية تقليدياً. يستطيع غانتس أن يستعمل حق النقض لإسقاط الحكومة، لكنه قد يتردد في استعماله في المسائل الحرجة. هذا التردد سيُضعِف قدرة حزبه على التصدي لأجندة شركائه اليمينيين في حكومة الائتلاف.

يمقت الإسرائيليون هذه الحكومة المتضخمة، مع أن معظمهم يفضلونها في الوقـــــــت الراهن على إجراء انتخابات رابعة. في النهاية، هم يريدون الحكم عليها بناءً على النتائج التي تحققها. سبق وحصد نتنياهو علامات عالية بعد تعامله مع فيروس كورونا الجديد. توفي أقل من 300 إسرائيلي بسبب الوباء، وكانت الإصابات الجديدة في شهر أيار شبه معدومة، وتم احتواء الفيروس وسط الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة.

حدّد نتنياهو وغانتس أولوياتهما، منها إعادة إحياء الاقتصاد الإسرائيلي والاستعداد لموجة ثانية متوقعة من الفيروس. عدا عن هذه الضرورات، يبقى هدف هذه الحكومة متعددة الرؤوس غير واضح، إذ لم تتفق الكتلتان على أي وجهة محددة. لكن نظراً إلى حق النقض الذي يملكه كل طرف على الآخر، قد يكون هذا الغموض فسحة إيجابية للابتعاد عن المسائل التي عكّرت صفو السياسة الإسرائيلية في عهد الحكومة اليمينية السابقة برئاسة نتنياهو.

هاجم وزراء نتنياهو استقلالية السلك القضائي وحاولوا تجريد المحكمة العليا من صلاحية الإشراف على عمل الكنيست. وبما أن حزب غانتس استلم وزارة العدل، يجب أن تخضع الأجندة التشريعية للمراقبة، لكن يبدو أن شيئاً لن يوقف تحريض اليمينيين ضد القضاء. لم تعد التشريعات التي تحمي نتنياهو من الملاحقة القضائية على خلفية تُهَم الفساد قائمة. لذا اضطر نتنياهو للمثول أمام المحكمة في الجلسة الأولى لمحاكمته بعد أسبوع على توليه رئاسة الحكومة.

في المسائل الأمنية، من المتوقع أن يتضاعف حذر نتنياهو الفطري بسبب سيطرة غانتس على وزارة الدفاع. سيتولى نائب غانتس، غابي أشكينازي، منصب وزير الخارجية قبل المداورة ووزير الدفاع بعدها. أشكينازي وغانتس رئيسان سابقان لأركان جيش الدفاع الإسرائيلي، وهما يجسّدان الأفكار البراغماتية والمثبتة للمؤسسة الدفاعية الإسرائيلية في الأوساط الأمنية. حصد أشكينازي الإشادة لأنه أدى دوراً أساسياً في منع نتنياهو من إطلاق ضربة عسكرية استباقية ضد منشآت إيران النووية في عهد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما.





ستكون هذه النزعة البراغماتية بالغة الأهمية في خطة ضم الأراضي، وهي السياسة الوحيدة الواردة ضمن الاتفاق بين نتنياهو وغانتس. أصرّ نتنياهو على أنه يملك الحق، بعد 1 تموز، بإلزام الحكومة بالوعد الذي أطلقه خلال حملته الانتخابية بِضَمّ غور الأردن و131 مستوطنة في الضفة الغربية، أي حوالى 30% من الأراضي الفلسطينية. كذلك، يذكر الاتفاق أن نتنياهو لديه الحق بطرح هذه المسألة أمام الكنيست مباشرةً لإصدار تشريع مُعجّل عنها في حال أعاقت الحكومة خطة ضم الأراضي. من المتوقع أن يحصد مشروع القانون دعم الأغلبية، حتى لو صوّتت كتلة غانتس ومعارضون آخرون ضده.

لكن حتى لو باشر نتنياهو بضم الأراضي، ينصّ اتفاقه مع غانتس على ضرورة أن تسعى إسرائيل إلى الحفاظ على علاقاتها مع جيرانها العرب والمجتمع الدولي الذي اعتبر ضم الأراضي غير شرعي في مناسبات متكررة. لا أحد يعرف بعد كيف ستحلّ الحكومة هذه المسألة الشائكة.

سبق وأطلق التهديد بضم الأراضي احتجاجات قوية من جانب الأردن والإمارات العربية المتحدة وجامعة الدول العربية والأمم المتحدة وأبرز الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. وأعلن الرئيس الفلسطيني محمود عباس إنهاء جميع الاتفاقيات مع إسرائيل، بما في ذلك التنسيق الأمني. أمام هذا الوضع، حذّر الرؤساء السابقون المرموقون في الموساد وجهاز "الشاباك" الأمني من التهديد الذي يطرحه ضم الأراضي على العلاقات مع الأردن واستقرار الضفة الغربية.

يدرك غانتس حجم التوتر الذي سيسببه ضم غور الأردن على مستوى معاهدة السلام بين إسرائيل والأردن والتنسيق الأمني مع السلطة الفلسطينية التي بذلت جهوداً كبرى لمنع العنف والإرهاب في الضفة الغربية. لكنه أيّد ضم الأراضي خلال حملته الانتخابية، ووافق على هذا البند في اتفاقه مع نتنياهو، وهو معروف بدعمه لضم جزء من المستوطنات المجاورة لحدود العام 1967 على الأقل.

اتّضحت المعضلة التي يواجهها غانتس في خطاب القبول الذي ألقاه أشكينازي بصفته وزير الخارجية بعد الإعلان عن الحكومة الجديدة رسمياً. من جهة، رحّب أشكينازي بـ"الفرصة التاريخية" التي قدّمتها خطة السلام المطروحة من الرئيس الأميركي دونالد ترامب "لرسم مستقبل دولة إسرائيل وحدودها في العقود المقبلة". ومن جهة أخرى، تعهد بتنفيذ الخطة تزامناً مع "الحفاظ على جميع اتفاقيات السلام لدولة إسرائيل وحماية مصالحها الاستراتيجية".

ثمة شرط صريح واحد حول ضم الأراضي في الاتفاق الحكومي: يجب أن تحظى هذه الخطة بدعمٍ كامل من الحكومة الأميركية. يشكّل هذا البند مأزقاً لنتنياهو مع اقتراب الانتخابات الرئاسية الأميركية. سبق وأعطى ترامب الضوء الأخضر لضم الأراضي كجزءٍ من رؤيته للسلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين. لكنّ جو بايدن، المرشح الأوفر حظاً للحزب الديموقراطي، عبّر صراحةً عن معارضته لهذه الخطوة واعتبرها "مسيئة للسلام" وتعهد بِعَكْس تحركات ترامب. لا شك في أن ضم الأراضي سيجعل من إسرائيل سبباً مثيراً للانقسام في الحملة الانتخابية. من المتوقع أن ترحّب قاعدة ترامب الإنجيلية بهذا القرار، فيما تعارضه قاعدة بايدن اليهودية والتقدمية في معظمها. إذا فاز بايدن في الانتخابات، قد يسحب الدعم الأميركي فيحرم إسرائيل من الموافقة الشرعية الدولية الوحيدة التي يحظى بها قرار ضم الأراضي.

إذا نقل نتنياهو خطة ضم الأراضي إلى الكنيست قبل الانتخابات الأميركية، قد يسبّب مشكلة كبيرة لإسرائيل مع أي رئيس أميركي جديد في المرحلة المقبلة. ستواجه إسرائيل حينها انتقادات دولية لاذعة من دون أن تحقق أي مكاسب. لكن إذا لم ينفذ نتنياهو تلك الخطة، سيواجه ثورة كبرى داخل حزبه وانتقادات مهينة من نافتالي بينيت وأفيغدور ليبرمان، زعيما الحزبَين اليمينيَين اللذين أقصاهما حين قرر التعاون مع غانتس.

ستكون طريقة معالجة هذه المعضلات من جانب نتنياهو وغانتس أهم اختبار أمام الحكومة الإسرائيلية التي تبقى حديثة العهد مع اقتراب تاريخ النقاش حول ضم الأراضي في 1 تموز. لكن يجب أن يتذكر كل من يشكك بفرص صمودها أن ذبح أفعى الهيدرا تطلّب بطلاً مثل هرقل!


MISS 3