منى فياض

المأساة الفلسطينية في غياب الوحدة الوطنية والمجتمعية

4 تشرين الثاني 2023

20 : 58

كانت ملفتة مداخلة المناضل الفلسطيني المقيم في لبنان، هشام دبسي، في الندوة التي عقدت في مكاتب مجلة جنوبية في 25\10\2023، للإضاءة على تعقيدات وخلفية ما يحصل في غزة؛ من اجل تحصيل التوازن بين ما نريد وكيف ننظر الى تجربتنا بعين ناقدة.


السؤال الذي حاول الإجابة عليه: ما هي العلاقة بين الحقيقة السياسية والخيارات الكبرى؟ 



قام في البداية بمراجعة نقدية لممارسات القوى الوطنية التي رافقت دخول العامل الفلسطيني كشأن لبناني منذ اتفاق القاهرة، وخصوصاً بعد دخول الجيش السوري وكيفية التعامل مع الاحداث حينها. سؤاله الأساسي، بعد ان نشرت وثائق سرية متعلقة بتلك المرحلة، هل استفاد الفاعلون من تجاربهم ومن دروس التاريخ؟ هل كانوا سيغيرون مواقفهم فيما لو كانوا اطلعوا على تلك الخطط؟ ام انهم سيبقون على مواقفهم دون مراجعة نقدية لجميع الممارسات التي لم تصل الى غاياتها بعد كل هذا الوقت؟ 



وذلك طبعا في ضوء الحرب الوحشية الاسرائيلية على المواطنين في غزة وعلى القضية الفلسطينية. الشعار المحمول من القوى الغربية، كقميص عثمان، "حق إسرائيل بالوجود". يطلق هذا الشعار بوجه العرب، وكأنهم المسؤولون عن المحرقة التي انزلها هتلر باليهود. مع ان اليهود كانوا دائماً مقبولين في البلدان الإسلامية والعربية، وعاشوا تاريخياً كعرب يهود في هذه البلدان وتسلموا فيها مراكز عالية. 



لم تنشأ قضية يهودية في الشرق قبل احتلال فلسطين. المشكلة اليهودية نشأت في أوروبا. فالدول الغربية لم تجد حلا للمعضلة اليهودية الا بطريقتين: اما باقتراح طردهم من أوروبا كما فعل وعد بلفور، او بالقضاء عليهم كما فعلت "النازية". فوعد بلفور هو من وجد طريقة للتخلص منهم في أوروبا وطردهم الى فلسطين، وانشاء دولة إسرائيل على الأرض الفلسطينية.  



يرفع الغربيون الان بوجه العرب يرفعون والفلسطينيون إشكاليات غربية، لأنهم عجزوا عن إيجاد حل لمعضلتهم مع اليهود سوى محرقة النازية أو طردهم من الغرب.  



وأمام كل من يرفض امتهان حقوق الفلسطينيين وعدم تطبيق قرارات الشرعية الدولية بما فيها حل الدولتين، يحملون فزاعة محاربة اللاسامية وعدم معاداة اليهود. مع أن المنطقي ان يوجهوا هذه الشعارات تجاه أنفسهم وشعوبهم.  



الأمر المهم الذي يشير اليه دبسي، ان العرب وحدهم من أوجدوا حلاً إنسانيا وعادلاً للمسألة اليهودية، مع ان علاقتهم بالصهيونية علاقة المدافع عن النفس ممن تعرّض للاعتداء. مع ذلك اقترحوا الحل السلمي في قمة 2002 في بيروت. الأرض مقابل السلام أي حل الدولتين. 



هذا الحل الذي تم اقراره منذ العام 1949 ولم يتم تنفيذه حتى الان؛ بداية لأن الفلسطينيين والعرب رفضوا ذلك. وظل الأمر على ما هو عليه منذ اتفاقية أوسلو وحتى الآن. بقي القرار حبراً على ورق. 

 

في ما يتعلق بما يجري اليوم وبمسألة غياب الشرعية الفلسطينية بسبب انقسام الشعب الفلسطيني بين حماس وفتح او منظمة التحرير. يشير دبسي الى أن الشرعية الفلسطينية، لا تتعلق بالسلطة الموجودة الان فقط، لأنها تتأسس على المخزون المتراكم منذ ان بدأ الصراع في ارض فلسطين باتجاهين: ضد الانتداب البريطاني وضد الاستيطان الصهيوني. أي منذ ان بدأ يتشكل مفهوم المقاومة والأحزاب والحكومة.  



المقاومة انطلقت من حكومة فلسطين التي أقامها الانجليز برئاسة الحاج أمين الحسيني. ما يعني انها انطلقت من داخل المؤسسة الشرعية وليس من خارجها. بعد انهيار الحكومة إثر النكبة حاول الحسيني تشكيل حكومة عموم فلسطين واعترفت بها جامعة الدول العربية. لكنهم تراجعوا عن هذا الاعتراف وأسقطوا التمثيل الفلسطيني اللي استمر اكثر من 4 او 5 سنوات بجامعة الدول العربي (48-56). وبهذا فقد الفلسطينيون الكيانية ومن ثم فقدوا الشرعية.  

 

لكن أعيد تكوين الشرعية الفلسطينية عبر منظمة التحرير، باعتبارها هي مؤسسة ما قبل الدولة، وبدأ استنهاض المخزون النضالي مرة أخرى، ووجد الخط الفلسطيني المستقل عن الخط الناصري والبعثي واليساري، بعد ضياعه منذ 1948 وحتى 1965. 



بدأ الفلسطينيون في مراكمة شرعية النضال الفلسطيني على الساحة العربية بالذات مستفيدين من حرب حزيران في 67. 



اذاً السؤال هنا، هل من الممكن ان الفلسطينيين، كلما حققوا انجازاً وحصل تقدم واعتراف دولي بهم، ما يعني الارتقاء من حركة اعتراض مسلحة الى كيان سياسي قانوني ضمن الشرعية الدولية، يعودون بلحظة ليهدموا ما تم بناؤه للبدء من جديد؟ 



يؤكد دبسي، اننا من اجل تحصيل التوازن بين ما نريد وكيف ننظر الى تجربتنا علنا نجد توازناً ما، وللاستفادة من التجارب التاريخية، يجب القيام بمراجعة، منذ حقبة دخول الجيش السوري الى لبنان.  



الاعتقاد السائد حينها، من منطلق أيديولوجي يساري، ان النضال سيطيح بالإمبريالية وجميع الأنظمة العربية الدكتاتورية. وعندما تدخل النظام السوري، ظن البعض انه لتصفية القضية الفلسطينية، والبعض الآخر ظنه لتحجيمها.  



لم يفهم أحد ما الذي يحصل، الى ان انتشر الجيش السوري حتى نهر الأولي جنوب لبنان، ودخلنا بتعقيد وجود الثورة في الجنوب وبيروت وحواجز السوريين وظل هذا الاعتقاد لغاية 1982 أي طوال 6 سنين.  



وسالت دماء غزيرة وقتل العديد من اللبنانيين والفلسطينيين، جراء العمليات العسكرية الإسرائيلية وأخرى جراء عمليات المقاومة. كل ذلك كي يتكشف من الأرشيف لاحقا، عن طريق جندي تقني من البنتاغون كان عليه متابعة تحركات الجيش السوري بواسطة خرائط أعطيت له للخط الذي سيتبعه دخول الجيش السوري. وعندما وجد ان المدرعات جاءت من جزين ووصلت الى نهر الأولي، اتصل بالسفارة، قائلا ان خرائطه تقول ان عليهم الوصول الى الناقورة وليس الاولي! فلماذا غيرت الدبابات خطها؟ 



جاءه الرد، انه حصل تغيير في الـ 24 ساعة بعدم انتشار الجيش السوري على طول الحدود اللبنانية الإسرائيلية وان عليه ان يبقى على الاولي. عندما سأل لماذا هذا التغيير؟ قيل له بناء على طلب إسرائيلي، يريدون ترك الجنوب مساحة للاختبار ولديهم مصلحة في الاستمرار بالاشتباك مع الفلسطينيين لاختبار السياسات المصيرية المتجهة لعقد اتفاقية السلام.  



امام هذه النقطة استرجع دبسي تلك الفترة التي كانوا يموتون فيها معتقدين ان إسرائيل رفضت وجود الجيش السوري على حدودها لأنه يشكل خطرا عليها. ليتبين ان الحكاية هي في ان الإسرائيلي يريد بقاء المقاومة والاستمرار بالاشتباك معها لتمرير سياساته واختباراته السياسية مع النظام المصري ليعاين ردود فعله وكيف سيتصرف.  



هنا يطرح السؤال: لو كان واحدنا في القيادة وعرف هذ الحقيقة في لحظتها، ما هو القرار الذي يجب عليه ان يأخذه؟ هل يستمر في القتال؟ حتى لو عرف ان الإسرائيلي يستخدمه في موضع لا يجب ان يكون فيه مقاتل؟ هل يغير كل تكتيكاته؟ 



الإجابة صعبة، لذا سأل من كان لديهم خبرة عسكرية في ذلك الحين. معظمهم أجاب: نستمر في القتال. شخص واحد فقط أجاب: لأ، كان يجب ان يغير أبو عمار خطته.  



يعني حتى عندما تتكشف الحقيقة السياسية نجد ان الخيارات تذهب أكثر نحو قبول الاستمرار بالقتال وتحمل كل هذه الخسائر، ورفض تغيير الخيار لماذا؟ لأنه سيصبح جباناً لو أوقف القتال. يجب ان لا يتوقف القتال.  



القبول بنفس الموقف مع معرفة نتيجة هذه الست سنوات، ومع كل هذا الدم وكل هذه الخسائر للبنان والفلسطينيين وما نتج عن احداث 82؟ فيما لو ان الجيش السوري اكمل انتشاره على حدود إسرائيل، لكانت تغيرت المسألة برمتها، والنتائج والمسارات والصراعات، كانت كلها تغيرت.  



يحكمنا هذا النوع من التفكير السياسي حتى الان. عندما نكتشف الحقيقة السياسية، لا نربطها بالخيارات التي لدينا ولا بالتوجهات التي يجب اتباعها. 



اللحظة الثانية التأسيسية: هي لحظة انتفاضة الحجارة، والتي تعدّ الحدث الرئيسي في كل تاريخ النضال الفلسطيني في القرن العشرين. لماذا؟ لأنها كانت المرة الأولى التي ينزل فيها المجتمع الفلسطيني الى الشارع ولفترة زمنية متواصلة ويعرف ماذا يريد. لم ينزل للاعتراض فقط، بل تبلورت لديه مطالب واضحة. 



خلال سنة، كان هذا هو هدف المنتفضين. بينما كانت الفصائل الفلسطينية منتشرة بكل اصقاع الارض وفي كل حضن من أحضان داعميها من أنظمة وغير أنظمة، بعد ان عادت فتح مشتتة بمواقعها وقيادتها ووضع أبو عمار صورة الهنود الحمر على مكتبه ليقول سنصبح مثلهم اذا استمرينا هكذا.  



في انتفاضة الحجارة انعقد المجلس الوطني الذي اتخذ القرارات الرئيسية، وصفّق لها الجميع وقال ان الوحدة الوطنية تحققت. ما تحقق ليست الوحدة الوطنية. ما تحقق ان الفصائل استجابت غصباً عنها للوحدة المجتمعية التي تحققت في الواقع المجتمعي الفلسطيني في الضفة وغير الضفة والتم عليها واقع الشتات الفلسطيني.  



لأول مرة تنزل مكونات الشعب الاجتماعية المدنية، وليس النخب، الى الشارع وتقول ان مطلبها الدولة. هذا ما جعل الغرب يعترف ويتنازل ويفاوض باعتبار اننا شعب له حق تقرير المصير، ودخلنا على أساس مطلب دولة فلسطينية. وحصلنا على حضور رسمي قانوني. 



المشكلة المطروحة الآن أيضا، هي مشكلة الوحدة الوطنية، كيف يمكن العمل على إعادة دمج للنظام الفلسطيني بطريقة مختلفة لينتج وحدة وطنية، ما لم يكن هناك قوى مجتمعية تنتج وحدة وطنية؟ 



لو احضرت جميع الأمناء العامين للفصائل وتركتهم يتناقشون 100 عام، لا ينتجون وحدة وطنية الا اذا وجد أساس حقيقي للموضوع، الوحدة الوطنية والمجتمعية. والا سنكون كمن يبحث في الفراغ وتهدر الفرصة التي امامنا.  



لفهم ذلك لا بد من العودة الى اللحظة التي انتصرت فيها حماس في انتخابات 2007، علّق دبسي حينها في ندوة في النادي العربي، في ورقة صغيرة نشرت، يقول فيها: "اهنئ حماس على انتصارها واؤيد ان تكون جزءاً من السلطة. على ان تكون معارضة تقوّم اعوجاج فتح لتطوير النظام السياسي الفلسطيني، وعلى قاعد موالاة ومعارضة ومجلس تشريعي يلعب دور الرقابة على حكومة فتح. وانصح حماس عدم دخول الحكومة والبقاء في المجلس التشريعي الذي يضغط على السلطة التنفيذية، وهي بيد فتح، وينتظروا النتائج مع مراقبة الى أي مدى يساعد هذا في تطوير شامل للحالة الفلسطينية. 



وعلى حماس البقاء في إطار الشرعيات الثلاث: فلسطينية وعربية ودولية. فاذا لم تندمج في الشرعية الفلسطينية ومن ثم العربية والدولية، كل هذا سيؤدي الى كارثة.  



وللأسف هذا ما حصل، نتيجة انقلابهم على السلطة وعلى أنفسهم بعد عام. وحتى الان هم لا يفهمون ما قاموا به من انقلاب على الشرعية سمح لإسرائيل ان تعتبر السلطة الفلسطينية لا تمثل الفلسطينيين، وان حماس التي في غزة إرهابية. وبالتالي لا تتعامل معهما كشرعية ممثلة للفلسطينيين. فوصلت السلطة الفلسطينية الى حالة العجز وعدم القدرة على المبادرة واتخاذ قرار، بفعل مسار اشترك فيه الفلسطينيون من موقعين مختلفين: فتح اشتركت فيه من موقعها في السلطة لأنها لم تعرف كيف تدمج كل عناصر القوة الفلسطينية الكامنة في الشعب الفلسطيني ولا حماس كان لديها المرونة الكافية لتفهم كم من المهم لها ان تكون جزءا من الشرعية الفلسطينية والخروج من هذا التطرف. 



السؤال ما زال مطروحا؟ 

ماذا ستفعل حماس الان؟ 



احد أسباب ما قامت به في طوفان الأقصى انها لم تستطع انشاء منظمة تحرير بديلة وتريد الدخول الى منظمة التحرير وتكون لها اليد الطولى او الكلمة الأولى او إعادة خلق توازنات جديدة.  



ما يحدث الآن مأساة إنسانية في غزة، ومأساة جغرافية وديموغرافية في الضفة الغربية، التي تشكل جوهر ونواة وقاعدة المشروع الفلسطيني للدولة. فهم يفصلون الريف عن المدن، ويحاصرون المدن ويجعلون منها غيتوات مقفلة. 



ما يحصل الآن يهدد بالعودة، ليس فقط الى 67، بل الى المربع الأول بعد النكبة مباشرة. إذا وصلوا الى غايتهم من دون مصدّات الدفاع العربية والدولية التي تستطيع ان تلعب دورا، سيعيدوننا الى مأزق 48 لحظة النكبة نفسها، حيث لا يوجد أي هيكل يمكنه القول انه يمثل الشعب الفلسطيني لتأمين حقوقه.  



هناك إنجاز حصل من ناحية، ومأساة تحصل من ناحية أخرى.، لأننا لا يمكن ان نضع الإنجاز ليستر او يغطي المأساة الإنسانية في غزة والمأساة الجغرافية والديموغرافية داخل الضفة الغربية. 



ما يحصل جريمة سياسية بحق الشعب الفلسطيني توازي او هي أكبر من الجريمة العسكرية التي يقومون بها الآن. اذا استمر الموضوع على حصة هذا الفصيل او ذاك، سيكون مقتل القضية الفلسطينية. لأن الشرعية الفلسطينية اكبر من فتح ومن حماس، ولأن الدفاع عن هذه الشرعية يعد دفاعا عن مخزون النضال الوطني الفلسطيني بكل إنجازاته واخفاقاته دون أي موقف عصبوي. علينا ان نكون نقديين قبل ان نشجع. ان التخلي عن النظرة النقدية والانتقال الى الدفاع الاعمى لا يوصل الى أي مكان. 

 

ونظراً لكل ذلك، وبما ان الشعب الفلسطيني لن يتنازل عن حقه بأرضه ودولة حرة وسيدة، وسيظل يقاوم بالرغم من كل آلة الحرب الإسرائيلية الوحشية المدعومة من الحكومات الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة. 



لذلك على المجتمع الدولي، الإصغاء لصوت الحق الذي تستشعره الشعوب وتغفله حكوماتها، أن يحرص على تنفيذ قرارات الشرعية الدولية هذه المرة، وليس الاكتفاء بهدنة او مجرد استعادة الحديث عن حل الدولتين، فيما دماء أطفال ونساء وشيوخ ومواطني غزة تسيل كالأنهار، ثم يماطلون عند انتهاء جولة العنف هذه بانتظار ان تتجدد بعد حين. 



القضية الفلسطينية لن تموت. على النظام العربي هذه المرة، الضغط وعدم التراجع او التنازل عن حق الشعب الفلسطيني بدولته، كي يحصل على حقه بالسلام العادل والدائم.  

 

MISS 3