زاكاري كارابيل

إيلون ماسك: بطل فوضويّ في عصرٍ فوضوي

11 تشرين الثاني 2023

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

وسط الثقافة الصاخبة والفوضوية اليوم، اتّضح للجميع أننا نعيش في عصر الشهرة العابرة. يستطيع أيٌّ كان أن يجمع عدداً هائلاً من المتابعين على مواقع التواصل الاجتماعي، لكن لم يحافظ عدد كبير من مؤثري الأمس على تأثيرهم اليوم. لا ينطبق هذا الوضع على نجوم مواقع التواصل الاجتماعي العابرين فحسب، بل على أهم الأساطير أيضاً. وحتى لو بقي هؤلاء تحت الأضواء، لا مفر من أن يواجهوا ردود أفعال قوية في مرحلة معينة. نحن نعيش في عصرٍ يفتقر إلى الأبطال، أو قد يكون عصراً نحاول فيه إسقاط الأبطال بعد إيصالهم إلى عروشهم. تتّضح هذه الظاهرة مع إيلون ماسك. وُلِد هذا الأخير في جنوب أفريقيا، ويقتصر عمره على 52 عاماً، وقد عاش مرحلة من دورة النجومية هذه، فتحوّل من بطل إلى أسطورة تلطّخت سمعته خلال أقل من 15 سنة. لم تنتهِ قصته بعد، لكن سبق وجذب الأضواء إليه، لأسباب إيجابية أو سلبية، وجمع ثروة تفوق معظم الناس الآخرين. لا شك في أنه يستحق السيرة التي كُتِبت عنه بعنوان Elon Musk ونُشِرت في شهر أيلول، بقلم واحد من أفضل كتّاب السِيَر، والتر أيزكسون.

منذ منتصف العقد الأول من الألفية الثالثة، حقق ماسك النجاح بسرعة تضاهي الصواريخ التي تُصنّعها شركته «سبيس إكس». اعتبرته مجلة «تايم» «رجل السنة» في العام 2021. قد لا يحمل هذا التصنيف القدر نفسه من المصداقية اليوم، لكنه يبقى رمزاً لمكانة الناس العالمية. في آخر سنتين، بقي ماسك جزءاً من منافسة غير رسمية على لقب «أغنى رجل في العالم» مع مؤسس «أمازون»، جيف بيزوس، الذي يملك أيضاً شركة صواريخ منافِسة.

في مطلق الأحوال، لا يمكن اعتبار «سبيس إكس» مجرد مشروع ترفيهي، فهي نجحت في تصميم وإطلاق صاروخ قابل لإعادة الاستخدام، وأصبحت أبرز مقاوِلة فرعية لوكالة «ناسا» والحكومة الفدرالية الأميركية، وقد أثبت أيزكسون في كتابه مراراً أن الشركة نجحت في تخفيض التكاليف بدرجة هائلة وأنها تبتكر بسرعة عجزت «ناسا» عن مضاهاتها منذ فترة الستينات. نحن نتكلم هنا عن واحدة من شركات ماسك.

أصبح أيزكسون كاتباً عبقرياً للسِيَر: هو كتب سلسلة من الكتب اللامعة عن أشخاص عباقرة ساهموا في رسم مسار العالم، بدءاً من ليوناردو دا فنشي وألبرت أينشتاين، وصولاً إلى ستيف جوبز وجنيفر دودنا. يمكن اعتبار ماسك خياراً منطقياً في هذه المرحلة، مع أن المواصفات المطلوبة لا تنطبق كلها عليه.

غاص أيزكسون في عالم ماسك طوال سنتين قبل إصدار الكتاب، ومن الواضح أن التقرب منه لم يُسهّل عليه كتابة سيرته. ذكر أيزكسون، في مقابلاته منذ نشر الكتاب، أن ماسك «تقوده الشياطين»، وأنه «مهووس بفرض سيطرته»، وقد يصبح «بارداً ووحشياً». في الوقت نفسه، يدرك أيزكسون جيداً أن أحداً لا يستطيع تبسيط أي كائن بشري كما يشاء، فيكتب: «قد يصعب التخلص من الجوانب القاتمة من دون كشف الغطاء كله».

على غرار جوبز، اكتشف أيزكسون أن الشياطين جزء من المعادلة. حتى أنها قد تكون عنصراً أساسياً في حالة ماسك: لولاها، ما كانت الدوافع القوية لتنتج شركات مثل «تيسلا»، و»سبيس إكس»، وخدمة الإنترنت عبر الأقمار الاصطناعية «ستار لينك» (ساعدت الأوكرانيين في أول أيام الغزو الروسي)، و»نيورالينك»، وروبوت «أوبتيموس»، وأخيراً شركة «إكس إي آي» المتخصصة بالذكاء الاصطناعي. كذلك، ما كانت عملية شراء «تويتر» (اسمه «إكس» اليوم) لتحصل في أواخر العام 2022، علماً أن هذه الصفقة أثّرت بشدة على صورة ماسك كشخص مغامر يأخذ مجازفات كفيلة بإحداث تغيرات جذرية.

لم تنتهِ قصة «تويتر» بعد، لكن كانت أول سنة من عهد ماسك وحشية على مستوى العلاقات العامة. ربما كانت شركة «تويتر» تشمل آلاف الموظفين الزائدين، ما يعني ألا تحتاج إليهم المنصة لصيانتها وتحديثها. لكن تشير الطريقة التي استعملها ماسك لطرد الآلاف منهم، من دون مراعاة دورهم أو هويتهم، إلى شخصيته ورؤيته العالمية. هو أخبر أيزكسون، بعد توجيه انتقادات لاذعة لأحد المهندسين في شركة «سبيس إكس»: «الفيزياء لا تهتم بجرح المشاعر، بل تُركّز على تصنيع صاروخ فاعل».

يطبّق ماسك هذه الفلسفة مع موظفيه أيضاً: لا أهمية لهويتهم إذاً، بل يصبّ التركيز على ما يفعلونه وعلى إتقانهم لعملهم. إذا كانوا لا يجيدون ما يفعلونه، سيُطرَدون بكل بساطة.

اعتبر الكثيرون صفقة شراء «تويتر» شكلاً من الغرور والغطرسة بدل أن تكون امتداداً لرؤية تهدف إلى تحويل التجربة البشرية. بدا «تويتر» مختلفاً حتماً عن المشاريع التي طبعت السنوات السابقة. كان ماسك جزءاً من الجماعة التي ابتكرت خدمة «باي بال»، وقد أسس شركة «سبيس إكس»، وفرض سيطرته على «تيسلا» في محاولة منه لاستعمار كوكب المريخ وتحويل السيارات الكهربائية ذاتية القيادة إلى سلع بحد ذاتها. كانت تلك الطموحات عالية المستوى حتماً. شعر ماسك بأن الحياة لا تقتصر على حل المشاكل، بل «يُفترض أن تتمحور أيضاً حول تحقيق الأحلام الكبرى». هل من أحلام أكبر من استكشاف الفضاء والجيل القادم من التقنيات التحويلية والذكاء الاصطناعي؟

على صعيد آخر، أدرك ماسك على ما يبدو أن أي ابتكار كبير يترافق مع المخاطر. هو يأخذ مجازفات لن يقوم بها الكثيرون، ويبدو مندفعاً في خطواته. تكثر المقاطع التي يتطرق فيها أيزكسون في كتابه إلى طفولة ماسك، ووالده الذي كان صعب المراس، وطريقة تطوير شخصيته. يواجه ملايين الناس (أو حتى المليارات) مشاكل في فترة نشوئهم، لكن لا يمكن أن يكون هذا العامل وحده سبباً لأي عظمة أو إخفاق مستقبلاً. يجمع ماسك بين الشخص المغامِر والمندفع من جهة والشخص المهووس بالتفاصيل من جهة أخرى. لهذا السبب، يمكنه تحويل إنتاج السيارات الكهربائية وقِطَعْها إلى سلع بحد ذاتها، تزامناً مع تجاوز العوائق التي حالت دون تطوير الصواريخ قبل ظهور «سبيس إكس» بعقود طويلة.

تتقاسم قيادة السيارات والسفر في الفضاء نقطة مشتركة أساسية: أي خلل يحكم علينا بالموت. تترافق هذه المشاريع مع مخاطر قاتلة، على عكس «تويتر». يبدو ماسك مستعداً لأي رهان، لكنه ليس متهوراً بالقدر نفسه في تعامله مع أبرز أعماله. هو يتمتع بتركيز استثنائي على التفاصيل، وقد قال يوماً إنه لن يطلب من أي شخصٍ يعمل معه أن يقوم بنشاط رغماً عنه، لذا يتوقع من الناس أن يتنفسوا عملهم ويستوعبوا جميع المتغيرات. هو يطبّق المبدأ نفسه، ما يمنحه حسّاً غير مألوف ويجعله يرفض أي جواب سلبي في الوقت المناسب.

من المفاجئ أيضاً أن تمنعه هذه العقلية من أتمتة كل ما يحيط به. هو صارم جداً في طريقة تعامله مع أصحاب أكبر المهارات في شركاته، لكنه يكنّ احتراماً كبيراً للعنصر البشري باعتباره العامل الذي يُحدِث الفرق على مستوى النجاح أو الفشل. في مراحل مفصلية عدة، لا سيما في «سبيس إكس» و»تيسلا»، طالب ماسك بتجريد عمل معيّن من الأتمتة وإرجاعه إلى السيطرة البشرية ومرحلة الإنتاج، لأن البشر وحدهم قادرون على القيام بنشاطات محددة. بالنسبة إلى شخص يُعتبر رمزاً للتكنولوجيا، أثبت ماسك أنه عبقري في إصراره على إبقاء البشر محور جميع العمليات.

لم تُحقق صفقة شراء «تويتر» حتى الآن النتائج المرجوة على مستوى ردود الرأي العام أو قيمة الشركة الراهنة. دفع ماسك 44 مليار دولار لشراء المنصة في العام 2022، لكن تقتصر قيمتها القصوى على 19 ملياراً بعد مرور سنة، حتى أن هذا التقدير قد يكون سخياً. برأي الكثيرين، لم تكن عملية الشراء خياراً منطقياً من الناحية المهنية، بل مجرّد رغبة طفولية في امتلاك منصة خاصة به. يعترف أيزكسون بأن ماسك اعتبر «اقتناء مساحة رقمية عامة وشاملة وجديرة بالثقة» عاملاً ضرورياً في عالمٍ يتوقف فيه التغيّر التكنولوجي على تدفق الأفكار بكل حرية. لكن وسط التعليقات المرتجلة يومياً والتغريدات غير الخاضعة للمراقبة، انصدم أيزكسون حين اكتشف أن ماسك هو عملاق تكنولوجي يميل إلى خوض مناوشات غريبة مع خصومه الحقيقيين والوهميين.

يتعلق جزء من تحديات تقييم الأحداث المتلاحقة بمستوى الضجة التي تكون مؤثرة أو عابرة في المشهد العام. من المبهر أن نتعمّق في كتاب أيزكسون بعد تعمّقه بأفكار إيلون ماسك، لكن سيتعلق أهم حدث خلال عشر سنوات بقدرة «تويتر» أو «إكس» على التحول إلى مساحة رقمية فاعلة للربط بين أفكار الناس وتبادلاتهم التجارية حول العالم. أخفق ماسك في هذا المجال خلال السنة الأولى، لكن لا تزال هذه القصة في بدايتها. يثبت إرث ماسك الماضي أن كل من يحكم على مشروعه بالفشل يرتكب خطأً فادحاً.

يبدو ماسك بحسب وصف أيزكسون شخصاً صعب المراس، فهو يعيش حياة شخصية فوضوية ويتعامل مع درجة من الخلل العاطفي. يطرح الكتاب سؤالاً عالقاً حول دورنا الجماعي في بناء مجتمع حيث يستطيع المهووسون حصراً (والمصابون بدرجة من الخلل العاطفي أيضاً) إحداث تغيير مؤثر.

مقابل كل شخص يشبه ماسك، ثمة أعداد كبيرة من الأشخاص الذين يحملون القدر نفسه من الطموحات ويعيشون حياة لا يستحقونها لأن الحظ ليس إلى جانبهم. ومقابل كل شخص يشبه ماسك، ثمة أعداد كبيرة من الأرواح الأكثر اتزاناً، وهم يتعاملون مع المحيطين بهم بلطف وتعاطف، لكنهم لا يتحولون إلى قوى تخريبية أو تغييرية أو لا يرغبون في أداء هذا الدور أصلاً.

لا يمكن إلا أن تصبح سيرة ماسك المعاصرة أول مسودة تاريخية عن حياته. سيكون تقييم نظرة الأجيال اللاحقة إلى ماسك مثيراً للاهتمام: هل سيثبت أنه النيزك الذي سطع نجمه لفترة قصيرة قبل أن يخفّ وهجه ويتلاشى، أم أنه سيطلق ظاهرة جديدة بفضل شركاته المتنوعة التي مهّدت للموجة المقبلة من التغيّر البشري وسهّلت الانتقال من مرحلة إلى أخرى عبر السيارات، أو الصواريخ، أو شبكاتنا العصبية؟

حتى الآن، لا يزال ماسك تحت الاختبار، وهو يجسّد مبدأ عدم اليقين. هو أشبه بقوة نابضة يحمل الناس نظرة مختلفة عنها. هو بارع جداً في التكنولوجيا، لكنه مليء بالعيوب أيضاً. هو خليط حتمي من أفضل وأسوأ الصفات البشرية، ما يجعله البطل الفوضوي الذي يناسب عصرنا الفوضوي.





MISS 3