مصطفى علوش

فلسطين الناس

«نازلاً من نحلة الجرح القديم إلى تفاصيل البلاد وكانت السنةُ انفصال البحر عن مدن

الرماد و كنتُ وحدي ثم وحدي... آه يا وحدي...

يريد هوية فيصاب بالبركان سافرت الغيوم وشردتني ورمت معاطفها الجبال وخبأتني» (محمود درويش)

من مقالة الحقيقة من فلسطين 1891 قال اليهودي الصهيوني آحاد هاعام، «كانوا عبيداً في بلاد «الدياسبورا»، وفجأة وجدوا انفسهم أحراراً. لقد ولّد هذا التحول المفاجئ في نفوسهم ميلاً إلى الاستبداد، كما هي الحال عندما يصبح العبد سيداً، وهم يعاملون العرب بروح العداء والشراسة فيمتهنون حقوقهم بصورة لا معقولة، ويوجهون إليهم الإهانات ويفاخرون بأفعالهم. نحن كيهود نفكر أنّ العرب وحوش وهمج، يعيشون كالحيوانات ولا يفقهون ما يدور حولهم. لقد اعتقدنا أنّ العرب بدائيون لا يفهمون ما نبتغيه من فلسطين. لكنهم في الواقع يتظاهرون بأنهم لا يلاحظون شيئاً لأنهم لا يرون في الوقت الحاضر في ما نفعله أي تهديد لهم في المستقبل. ولكن اذا ما تطور الأمر إلى درجة زحفنا على المجال الحيوي للمواطنين الأصليين فانهم لن يتخلوا عن مكانهم بسهولة».

ليس جديداً على الصهيونية مبدأ إنكار الوقائع التاريخية في سبيل تحقيق أهدافها. أما الأكذوبة التاريخية الكبرى فهي، وبغض النظر عن الرواية التوراتية التي يشكك بها حتى علماء التاريخ اليهود، ما يحاول الصهاينة تأكيده وهو أنّ فلسطين في أواخر القرن العشرين، كانت أرضاً خالية من المواطنين، باعتبار أنّ معظم السكان كانوا من البدو الرحل الذين لا أرض لهم. هذه الأكذوبة طبعاً تدحضها الوقائع بوجود المئات من المدن والقرى الفلسطينية العربية ذات الطابع التاريخي اسماً وموقعاً.

وقد أكدت الأدبيات اليهودية في أواخر القرن التاسع عشر أنّ اليهود كانوا يستعينون بالخبراء في الزراعة من السكان المحليين لإنشاء الزراعات المتعددة في المستوطنات. وحتى لو عدنا إلى الرواية التوراتية لكان واضحاً أنّه كان على اليهود القتال مقابل كل شبر من أرض الميعاد في مواجهة السكان الذين سبقوهم إلى استيطان أرض فلسطين، وأنّ مملكة داوود لم تكن موجودة أساساً كما استنتج الباحثون اليهود أنفسهم.

لقد بقيت سياسة انكار وجود الفلسطينيين السياسة التي أصر عليها الصهاينة كما يتبين من تصريح «غولدا مائير»، رئيسة وزراء العدو سنة 1969 إلى صحيفة «الصنداي تايمز» قائلة «لا يوجد شعب فلسطيني، وهذا يعني اننا لم نطردهم لأخذ أراضيهم، انهم غير موجودين».

ومع أنّ أكثر من 80% من شعب إسرائيل هم غير متدينين، فإنّ معظمهم يستند إلى النص التوراتي لإثبات شرعية احتلال فلسطين. وقد فسر «ناتان واينتشوك» هذه المفارقة في كتاب له بعنوان «الصهيونية ضد إسرائيل»، كما يلي «إذا كانت الظلامية الحاخامية قد انتصرت في إسرائيل فذلك لأنّ الخرافة الصهيونية لا يمكن أن تتماسك إلا بالعودة إلى الطرح الديني. أحذفوا مفاهيم الشعب المختار، وأرض الميعاد فينهار أساس الصهيونية».

من هنا، ينبع التواطؤ بين الحركة الصهيونية التي نشأت بالأساس على مبادئ قومية وعلمانية وبين المنظومة الدينية اليهودية، وهذا ما يفسر الامتيازات التي تتمتع بها الأقلية المتدينة في إسرائيل. بغياب أية مؤشرات منطقية على الحق التاريخي لليهود باستعمار فلسطين. ففي احصاءات معروفة ما زال نصف الأميركيين يؤمنون بقصص التوراة كما أتت على أساس أنّها تاريخ مثبت. هذا يعني أنّ هذا الدعم ليس مبنياً عند العموم لأسباب دينية عقائدية تجعل من دعم إسرائيل واجباً دينياً لدى الكثيرين من الناخبين الأميركيين.

هناك جزء من الباقين، من أصحاب الايمان الملتبس، الذين يعتبرون إسرائيل رمزاً للديموقراطية، بالمقارنة مع الأنظمة المحيطة بها. أما بالنسبة لصناع القرار فإن إسرائيل قاعدة عسكرية متقدمة منذ ستينات القرن الماضي، جعلت من عدم استقرار الشرق الأوسط مساراً يومياً حكمت فيه الديكتاتوريات ومنعت التقدم والازدهار وشغلت الناس في التحضير الدائم للمعركة القادمة. علينا التعامل مع الأمر على هذا الأساس، وهذا ما أقنع بالفعل الدول العربية التي اختارت التطبيع على السير به، إضافة إلى سقوط الخيارات العنيفة الأخرى بفعل ضيق الحال والفشل المستمر. كما أنّ النجاح العنيف تم استخدامه لإطالة الصراع ومنع الحلول، وكلما انطلقت حرب اعتبرت نوعاً من النجاح لسياسات أميركا وإسرائيل.

في العام 1987، أجبرت انتفاضة الحجارة إسرائيل والعالم على الاعتراف بالشعب الفلسطيني على الرغم من تآمر الإخوة قبل الأعداء لتصفية كل ما هو فلسطيني. لكن ثمار تلك الانتفاضة تم تدميرها بفعل التطرفين اليهودي والإسلامي. واليوم ما يحصل بغزة من مجازر هو نتيجة استباق احتمالات الحلول المنطقية، وإن لم تكن العادلة. لكن، قريباً ستتوقف الحرب مهما طالت، وبغض النظر عمن سيرفع شارة النصر، ستبقى قضية الإنسان الفلسطيني هي الأساس، وليس الشعارات ولا البطولات.

من الواضح اليوم، انّ فلسطين بقيت أمراً واقعاً عالمياً علينا التمسك به ورعايته وحمايته من التعصب والإرهاب، لأن ما أعاد فلسطين إلى الخارطة من جديد، بالاضافة لتمسك الفلسطينيين بأرضهم وحقهم، هو الخطاب المتوازن والذكي الذي ركز على السعي إلى السلام والاستقرار، أمّا هدف نتنياهو اليوم بمساره الوحشي فهو دفع الأمور إلى المكان الذي ينقذ أمثاله، ويؤخر الحلول الممكنة لإحلال السلام ويعطي الفلسطيني جزءاً من حقه.

قد يكون الكلام هذا خارج السياق، فالدم الفلسطيني مستباح، وقد يكون التعقل في هذه اللحظة نوعاً من الجنون، لكن، لنفكر قليلاًً بحكمة في لحظات الجنون.