جولي مراد

ليلة من العمر في حضرة الفنّ الراقي

هيلين سيغارا في مهرجانات فقرا الدولية...

29 تموز 2019

00 : 00

(تصوير: جورج بو عبدو)

ليست المرأة من الذين يمرون مرور الكرام. لن تراها واقفةً برتابة وتعالٍ على المسرح بصوتٍ خجول لا يحرّك فيك ساكناً. إنها اجتياح كامل للمكان. لبقعةٍ جغرافية تطلّ فيها على جمهورٍ متلهّف تستملكه استملاكاً كاملاً منتقلة بخفة من أقصى اليمين الى اليسار، متكئةً بين فينةٍ وأخرى على عازف الغيتار، أو الاورغ أو الدرامز، فالعلاقة بينها وبين موسيقييها الأربعة أكثر من عضوية، فهي تصرّ على محاورتهم: "أرأيت كم اللبنانيات جميلات؟" تقول لأحدهم بابتسامةٍ عريضة. بركانٌ من المشاعر ينفجر امامك في صوتٍ نقيّ، جهوريّ نابض تارةً وناعمٍ رومنسي طوراً.


مع الفنان مايك ماسي (تصوير: جورج بو عبدو)


ما كان القيمون على أمسية "مهرجانات فقرا الدولية" ليتوقعوا هذا الكمّ من النجاح في الانطلاقة، لكنّهم تقصّدوا التميز باستقدامهم قامة من قماشة سيغارا. وليست تلك المرة الأولى التي تقيم فيها الأخيرة حفلة في لبنان، فهي نجمة عالمية مطلوبة، ولكنها من دون شك من أجمل حفلاتها، فقد فعلت "قلعة فقرا" بسحر آثارها الرومانية والبيزنطية المضاءة بألوان دافئة متزاوجةً بصوتٍ استثنائي فعلها في الأمسية والفنانة: "كم أنا صغيرة أمام هذه العظمة!"، تؤكد.

ولعلّ أجمل ما في الأمسية، إضافةً الى الاستمتاع بساعتين من الفن الراقي المتجسد أناقةً في الغناء والصوت، هو ذلك التواضع لديها منذ أطلت برأسها- بعد انتظارٍ دام 45 دقيقة لضروراتٍ خطابية لرئيس لجنة المهرجانات تلاه رئيس البلدية حيث أكّدا فيه على "فعل الايمان بلبنان بلد الحياة والنور والفينيق". "ساعدوني. يتملّكني الخوف... واجهتنا مشاكل تقنية ثم الخطابات... وانتظرت وانتظرت... وها أنا أمامكم ارتجف... وحين سمعتكم تواجهون التأخير بالتصفيق شعرت بدفئكم ففرحت..."، قالت باقتضاب.


(تصوير: جورج بو عبدو)


تواجه سيغارا العراقيل بالسخرية: "ما الذي يحصل في لبنان مع المعدات؟"، تسأل ضاحكةً. ليس طبعها مفاجئاً لمن يعرف عنها، فالفنانة التي تواجه منذ خمس سنوات مرضاً مناعياً نادراً فقدت إثره البصر في عينها اليمنى، واتبعت علاجاً بالكورتيزون أكسبها كيلوغرامات إضافية وعرّضها لحملة تنمّر مؤذية، تأبى تحويل مرضها ثقلاً يرهق كاهل أولادها الثلاثة أو جمهورها، وهي لا تتحدّث عنه أبداً مكتفية بالقول: "لا ليست الأمور على خير ولكني لا أبالغ في الدراما".

كانت أمسية رائعة غنّت فيها النجمة أغانيها الذائعة الصيت ya trop de gens qui t’aiment، وElle tu l’aimes وTu vas me quitter وغيرها من مسرحية "نوتردام دو باري" التي كانت نجمتها لسنوات. وانضم إليها لاحقاً الفنان مايك ماسي فغنيا معاً "فيفو بيرلي"، ثم عرجت على أغانٍ ليست لها ولكنها صنعت مجدها كأدائها بتقنية "الديو الافتراضي" لأكثر من أغنية من ريبيرتوار جو داسان.

تتفقّد سيغارا الجمهور: "للذين غطوا في النوم خصوصاً الرجال، أسمعوني صوتكم... من جاء غصباً عنه بترهيبٍ من زوجته؟ إرفعوا أصابعكم... أعرف أن جمهوري معظمه من النساء، ولكن هل تعرف أنك حين ستعود الى منزلك ستجد حبّ زوجتك لك مضاعفاً؟".


(تصوير: جورج بو عبدو)


نهاية الأمسية كانت أكثر من رائعة: "لن أترككم تعودون أدراجكم من دون أن نرقص معاً، وإن لبّيتم سنرقص بجنون"، قالت وراحت تغني "حرّمت أحبك" لوردة الجزائرية بالفرنسية والعربية معاً متمايلةً بخصرها فألهبت الجمهور بلحظة.

"هل في الجمهور من أرمن؟ عرفتُ أن سفير أرمينيا هنا، وأمي التي تزور لبنان للمرة الأولى، ويبدو أنها لا تريد المغادرة... أمي لا تنظري إليّ فيما أغني الآن، كي لا أبكي... إليك وإلى الجمهور أهدي "ديلي يامان" (أغنية تجسد معاناة الارمن)"... سكونٌ رهيب... خشوعٌ صدح فيه صوتٌ وقوريّ ملائكي منفرداً، من دون مؤازرة آلات موسيقية... نقاء صافٍ... لحظاتٌ اقشعر لها البدن... مسك ختامٍ ولا أروع!

MISS 3