جيمس كرابتري

في ظل احتدام حربَين متزامنتَين...

الصين تختبر الولايات المتحدة في آسيا

17 تشرين الثاني 2023

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

من امام السفارة الصينية في مانيلا 11 آب 2023

يتعامل الرئيس الأميركي جو بايدن مع حربَين في أوكرانيا والشرق الأوسط، ما يعني أنه لن يستطيع تحمّل كلفة أي أزمة جيوسياسية ثالثة. لكنه اضطر في أواخر تشرين الأول لتحذير الصين من مهاجمة الفيليبين، بعدما افتعلت بكين سلسلة من الحوادث البحرية الخطيرة التي صعّدت الاضطرابات في بحر الصين الجنوبي، فزاد احتمال أن تضطر واشنطن لتنفيذ التزاماتها التي تفرض عليها أن تهبّ لمساعدة مانيلا. قال بايدن: «التزام الولايات المتحدة بالدفاع عن الفيليبين متين. أي هجوم ضد الطائرات، أو السفن، أو القوات المسلحة الفيليبينية، يستدعي تفعيل معاهدتنا الدفاعية المشتركة».



يؤكد وعد بايدن على زيادة التخبّط في السياسة الخارجية الأميركية، ويسهل أن تشعر الدول في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ بهذا التوتر. أقدم بايدن في الفترة الأخيرة على إعادة إحياء تحالفات مهمة. في أوروبا، زادت قوة حلف الناتو بعد ردّه على الغزو الروسي لأوكرانيا. وفي آسيا ومنطقة المحيط الهادئ، ترسّخت التحالفات الأميركية مع أستراليا، واليابان، والفيليبين، وكوريا الجنوبية. وفي إطار استراتيجية بايدن الخاصة بمنطقة المحيطَين الهندي والهادئ، غالباً ما يشدد المسؤولون في الإدارة الأميركية على أهمية تقوية العلاقات مع «الحلفاء والشركاء».

لكن يبدو أن واشنطن تتوقع من تلك العلاقات أن تتحمل المزيد من الأعباء الجيوسياسية اليوم. تحتاج الولايات المتحدة إلى تحالفات أقوى لأنها لم تعد تستطيع السيطرة على جزء كبير من مشاكل العالم وحدها. إنها المعضلة التي تتعامل معها واشنطن بسبب تنامي نفوذ الصين تحديداً. لكنّ هذا الوضع يضع فريق بايدن في موقف شائك. أولاً، يحتاج حلفاء ضعفاء، مثل الفيليبين، إلى تطمينات إضافية نظراً إلى مخاوفهم المشروعة من التوسّع الأميركي المفرط. ثانياً، من المتوقع أن يحاول خصوم الولايات المتحدة إيجاد الفرص التي تسمح لهم باختبار التزامات التحالف، وهو ما تقوم به الصين راهناً مع الفيليبين، وأن يزيدوا التشكيك بمصداقية واشنطن.

ركّزت الاضطرابات المتزايدة في بحر الصين الجنوبي على محاولات الفيليبين إعادة تزويد سفينة «بي آر بي سييرا مادري» التي تعود إلى حقبة الحرب العالمية الثانية بالإمدادات، علماً أن هذه السفينة رَسَت عمداً في منطقة «سيكند توماس شول» في العام 1999. تحتفظ مانيلا بموقع لمشاة البحرية على متن تلك السفينة الصدئة للتأكيد على سيادتها في مساحة تقع ضمن المنطقة الاقتصادية الخالصة الفيليبينية المعترف بها دولياً، مع أن بكين تزعم أنها صينية تاريخياً. وقعت حوادث أخرى في أماكن مختلفة، بما في ذلك إقدام الصين في شهر أيلول على تركيب حاجز عائم في منطقة «سكاربورو شول» المتنازع عليها أيضاً، لكن عاد خفر السواحل الفيليبيني وأزاله لاحقاً.

في غضون ذلك، بدأت الفيليبين تثبت استعدادها للقتال. يبدو خفر سواحلها ذكياً في حملته الدعائية العامة، فهو نشر صوراً وفيديوات مقنعة عن السلوك الصيني العدائي. في شهر تشرين الأول، كشفت مانيلا صور سفينة صينية وهي تصطدم بسفينة فيليبينية أصغر حجماً خلال محاولة إعادة التزوّد بالإمدادات. وفي شهر شباط، استعملت الصين جهاز ليزر ذات استخدام عسكري ضد طاقم سفينة فيليبينية أخرى.

في المقابل، يعكس السلوك الصيني امتعاض بكين من رئيس الفيليبين، فرديناند ماركوس جونيور، والخطوات التي يتخذها للتقرب من واشنطن، فهو تخلى فعلياً عن سياسات سلفه رودريغو دوتيرتي التي كانت موالية للصين. في شهر شباط، أعطى ماركوس الضوء الأخضر لتنفيذ خطط تسمح للولايات المتحدة بالوصول إلى أربع قواعد عسكرية في الفيليبين. وفي نيسان، أطلقت مانيلا وواشنطن أكبر تدريبات عسكرية مشتركة بينهما على الإطلاق. وبعد وقتٍ قصير على عقد الاتفاق المرتبط بالقواعد العسكرية، هاجم الرئيس الصيني شي جين بينغ الولايات المتحدة لأنها طبّقت سياسة «احتواء الصين، ومحاصرتها، وقمعها»، وهو يظن أن مانيلا باتت تلعب اليوم دوراً مهماً في هذه العملية.

ستكون تقوية العلاقات مع الفيليبين جزءاً من حملة أوسع لتعزيز مختلف الروابط في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، كانت الولايات المتحدة تتملق حلفاءها في معظم الأوقات لدفعهم إلى تحمّل جزء متزايد من أعباء الأمن الإقليمي. لكن يتبع البلد في عهد بايدن سياسة تقارب أكثر فاعلية بشكل عام. في هذا السياق، كتب مستشار الأمن القومي الأميركي، جيك ساليفان، في صحيفة «فورين أفيرز» في الشهر الماضي: «تسمح مساعي الرئيس لتقوية التحالفات بتقاسم أكبر قدر من الأعباء منذ عقود. تطلب الولايات المتحدة من حلفائها الاضطلاع بدورها تزامناً مع تقديم كل ما يترتب عليها».

لكن تكمن المشكلة الحقيقية في هذا المجال بالذات: كلما زادت الأعباء التي يتحملها هؤلاء الحلفاء، تزيد نزعة خصوم واشنطن إلى اختبارهم وتتوسع الحاجة إلى التطمينات في ظل تصاعد الاضطرابات الجيوسياسية. سافر ماركوس إلى واشنطن في شهر أيار الماضي، وعاد وهو يحمل بياناً مشتركاً يشدد على التزامات أميركية محددة. ذكر ذلك البيان ما يلي: «أي هجوم مسلّح ضد قوات الفيليبين المسلحة أو سفنها العامة أو طائراتها في منطقة المحيط الهادئ، بما في ذلك بحر الصين الجنوبي، يُفعّل الالتزامات الأميركية الدفاعية المشتركة». ينجم ذِكْر بحر الصين الجنوبي و»سفن عامة» مثل «سييرا مادري» عن ضغط مانيلا على واشنطن كي تكشف نواياها بوضوح.

يؤكد سلوك الصين على استيائها من الفيليبين، لكنه يفرض في الوقت نفسه تكاليف متزايدة على الجيش الفيليبيني. كذلك، تشكّل مواقف بكين الصارمة تجاه مانيلا في بحر الصين الجنوبي تحذيراً لمنع ماركوس من اتخاذ خطوات إضافية لمساعدة واشنطن في تحضيراتها لخطط الطوارئ التي تشمل تايوان المجاورة. لكن يتعلق أهم هدف صيني استراتيجي باختبار التحالف بحد ذاته. تُعتبر منطقة «سيكند توماس شول» مساحة مفيدة لتحقيق هذا الهدف، إذ تدخل سفينة «سييرا مادري» في خانة «السفن العامة» التي ستضطر الولايات المتحدة للدفاع عنها. تريد بكين إذاً أن تطرح السؤال التالي على مانيلا: هل أنتِ واثقة من استعداد واشنطن لمساعدتك في وقت الحاجة؟

هذه الظروف كلها تزيد معضلات الولايات المتحدة. لا مفر من أن تتراجع مصداقيتها وقوة ردعها إذا لم تتخذ خطوات كافية لدعم حلفائها في آسيا. في المقابل، تسمح أي خطوات مفرطة لبكين بتصوير واشنطن كقوة تخريبية وخطيرة في المنطقة. سيكون إيجاد التوازن المناسب مساراً معقداً، لا سيما في هذه المرحلة التي تخضع فيها التحالفات الأميركية المتعددة لاختبار شائك في أوروبا والشرق الأوسط. يشعر النقاد بالقلق لأن إدارة بايدن تجد صعوبة في استرجاع ذلك النوع من التوازن. كتب وزير الدفاع الأميركي السابق، روبرت غيتس، في صحيفة «فورين أفيرز» حديثاً أن الولايات المتحدة تجد نفسها اليوم «في موقف شائك على نحو استثنائي» لأن «الخلل القائم جعل القوة الأميركية تتخبط وتفتقر إلى المصداقية، إذ يشجّع هذا الوضع الحكام المستبدين المعرّضين للخطر على القيام برهانات خطيرة».

من المنتظر أن تتوسّع نزعة الأنظمة الاستبدادية إلى اختبار التحالفات الأميركية مع مرور الوقت. إنه التوقع الذي أطلقه كيرت كامبيل، منسّق شؤون منطقة المحيطَين الهندي والهادئ في مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض ونائب وزير الخارجية المقبل على الأرجح، خلال زيارة رئيس الوزراء الأسترالي أنتوني ألبانيز الأخيرة إلى واشنطن. يتقاسم حلفاء آخرون للولايات المتحدة مصلحة مشتركة تدعوهم إلى التصدي لتوسّع بكين وعدائيتها في بحر الصين الجنوبي. لهذا السبب، لم تكتفِ واشنطن بإطلاق مسار رسمي للتعامل مع بكين، بل نسّقت ردّها على حادثة منطقة «سيكند توماس شول» مع كانبيرا وطوكيو أيضاً. يوضح كامبيل: «أظن أننا وجّهنا رسالة واضحة: لا تختبرونا». لكن ستتابع الصين هذا النهج رغم كل شيء.

حتى لو كان النقاد مخطئين وحافظ بايدن على التوازن المطلوب حتى الآن، لا يعني ذلك أن شكوك حلفاء واشنطن ستتلاشى بسهولة. بل من المتوقع أن تتوسع تلك الشكوك تزامناً مع استمرار تخبّط النظام العالمي. يذكر المؤرخ بول كينيدي، كاتب The Rise and Fall of the Great Powers (صعود وسقوط القوى العظمى)، أن العالم الذي يتجه إلى ضم أقطاب متعددة قد يُجبِر الولايات المتحدة على حصر التزاماتها بعدد أقل من الشركاء. كتب كينيدي في مجلة «نيو ستيتمان» في شهر أيلول: «من المتوقع أن تضيق المظلة الأمنية الأميركية ويتراجع نطاقها وتقتصر على أماكن معروفة مثل دول الناتو في أوروبا، واليابان، وأستراليا، وإسرائيل، وكوريا، وربما تايوان». لكنّ هذا الوضع سيزيد أهمية تلك التحالفات. فيما تسعى الصين وروسيا إلى استكشاف نقاط ضعف الآخرين، ستبقى قدرة الولايات المتحدة على تقديم التطمينات التي يحتاج إليها حلفاؤها أصعب اختبار على الإطلاق.