مصطفى علوش

المناورة حتى آخر فلسطيني

21 تشرين الثاني 2023

02 : 00

«راح أحمدُ يلتقي بضلوعه ويديه، كان الخطوةَ النجمة

ومن المحيط إلى الخليج، من الخليج إلى المحيط، كانوا يُعدّون الرماحَ

وأحمدُ العربيّ يصعد كي يرى حيفا ويقفزَ.

أحمدُ الآن الرهينة، تركتْ شوارعَها المدينة وأتتْ إليه لتقتلهْ.

ومن الخليج إلى المحيط، ومن المحيط إلى الخليج،

كانوا يُعدّون الجنازةَ وانتخاب المقصلة»

(محمود درويش)

فيما يخوض المقاومون في مدينة غزة ملحمة تشبه ما حدث في ستالينغراد، حيث يقاتل كل فرد وهو يعلم أنّ احتمال بقائه حياً لا يتعدى جزءاً من عشرة، لا يحق لمن هو جالس على كنبة، يتابع الأخبار عن بعد، أن ينظّر في الاستراتيجيات العسكرية ولا في التحليلات السياسية. من هنا، لم يحن الوقت للحكم والمحاكمة، ومن يحق له أن يحكم أو يحاكم هم الضحايا وآلهم، وأصحاب البيوت والأرزاق والشوارع المدمرة، عندما يعودون ليبحثوا عن سقف يقيهم برد الشتاء، أو رزق يجنبهم شظف العيش، فلا يجدوه. عندها سينسى معظم الناس أصل البلاء وفصوله وتاريخانيته، ويعودون إلى ما هو مباشر وآني.

قولي هذا وأنا غافل عما كان قد وعدت به «جماعة الممانعة» عشية إقدام «سرايا القسام» على العملية التي كانت شرارة هذه الحرب الحالية. فقد أكد قادة الممانعة على وحدة الساحات، وربما آمن البعض بأنّ إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت، وربما اعتقد من كانوا في مقدمة الصفوف أنّ الوقت قد حان لمعركة «حر مجدو» ضد الدجال نتانياهو، وأنّ مئتي ألف «زيْنبي» سيزحفون عبر الجولان والأردن ولبنان، وأنّ عشرات آلاف الصواريخ البعيدة المدى ستنطلق من الساحل الفارسي للخليج العربي، لتحوّل ديمونا إلى رماد وتدمّر طائرات الدجال في حظائرها، وتنزل قوات كوماندوس جهادية لتفكك الرؤوس النووية التي يملكها جيش الدجال!

لكن، حتى هذه اللحظة، لم يظهر «الزينبيون» بمختلف أشكالهم إلا بعراضات محدودة بعيدة عن الحدود، وتحوّل من يملكون ناصية إطلاق الصواريخ إلى مشاهدين حياديين، وصار المرشد الأعلى للممانعة أشبه بمعلق سياسي في مقابلة متلفزة وهو يتحدث عن دور أمريكا في دعم إجرام إسرائيل. واستعرض الرئيس ابراهيم رئيسي كوفية فارغة المضمون في القمة ناصحاً بتسليح الفلسطينيين ولم يتحدث أبداً عن استعداداته للمواجهة. أما المرشد المحلي في لبنان فقد غاب عن كلامه ما بعد حيفا، وصار ينصح بمراقبة تطور المعارك في الميدان في انتظار لحظة صفر غير محددة، وخطوط حمر مطاطة، بين جموع لا تتقن غير الهتافات بحياته.

ما هو مؤكد حتى هذه اللحظة هو أنّ الفلسطيني، من جديد، يخوض معركته لوحده من دون شركاء. فقد سقطت منذ زمان بعيد رهانات العروبة والعرب، كما سقطت الرهانات على الدول الإسلامية، وبقي أمر واحد لا شريك له هو الإنسان في فلسطين، فلسطين المرأة والطفل، فيما ذهبت الشعارات وشارات الانتصار الوهمية مهب الريح.

على وعيي، لم يتقدم أيّ من المتنطّحين للزعامة والعمل السياسي في منطقتنا أو محيطها، إلا وكانت فلسطين مركز خطاباته وموضوع حله وترحاله كلما تساءل المتسائلون عن مشروعه السياسي والإنمائي، فكان الجواب الذي يستدرج التصفيق والتكبير هو تحرير فلسطين! فغاب الإنماء وضمرت العقول وتحكم بالناس أسفلهم وأكثرهم خِسة، وصار كل ضابط يستولي على السلطة، يبيع أحبولة استرجاع فلسطين لتخدير الناس. وصار بعدها كل من يطالب بالعدالة الاجتماعية أو قطع دابر الفساد أو إصلاح النظام التعليمي، خائناً للعروبة وعميلاً للصهيونية.

هذا من ناحية العرب، أمّا عن العجم، فحدث ولا حرج، فقد كانت فلسطين وسيلة هؤلاء للدخول لاستهبال شعبنا على أمل التربع على قيادة الجحافل الوهمية للتحرير، أكان فارسياً أم عثمانياً، سلطاناً أم مرشداً أعلى. وكلهم ما زالوا يرددون المقولة المبتذلة ذاتها «لن نسمح للعدو بأن يختار هو لحظة المعركة» ويناورون في تحديد الخطوط الحمر وساعات الصفر التي لا تحصى بخصوص معركة التحرير المجيدة، فيما فلسطين تفقد أبناءها وشبانها ونساءها وأطفالها، ولا من مجير.

واليوم، وفيما تتساقط بيوت الناس على أجسادهم، بقي أمل واحد بتلك الطفلة السمراء الشجاعة وهي تُستخرج من تحت جدار بيتها الذي انهار عليها، فقالت اسمها وتحدثت عن أخيها، ثم راحت تساعد المسعفين على رفع الحجارة التي غمرتها إلى ما فوق وسطها قائلة: «أنا بخير، الحمد لله!»، فيما المناورات على أجساد أخوتها ما زالت على قدم وساق.