بول ماسغريف

العلامات التجارية فريسة الحروب

28 تشرين الثاني 2023

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

ناشطون لبنانيون يدعون الى مقاطعة علامات تجارية تدعم اسرائيل - تشرين الثاني 2023

في عصر العولمة، أصبحت المظاهر الوطنية بالغة الخطورة. قد تؤثر تحرّكات أي علامة تجارية في سوق معيّنة على جميع الأسواق الأخرى. عندما بدأت سلسلة مطاعم «ماكدونالدز» في إسرائيل تقدّم وجبات مجانية إلى الجنود الإسرائيليين في الشهر الماضي مثلاً، سارعت الفروع الأخرى في بقية دول الشرق الأوسط إلى إبعاد نفسها عن هذا الموقف، حتى أن جزءاً منها تبرّع بالمال لصالح غزة. بالنسبة إلى الشركات التي تملك علامات تجارية قيّمة، قد تشتدّ التهديدات المطروحة على عملها بسبب القوة التي تتمتّع بها تلك الماركات.



كلّما اكتسبت العلامة التجارية شهرة عالمية، يرتفع احتمال أن تتورّط في الخلافات الدولية، ويترافق أيّ انحياز في المواقف مع تكاليف هائلة، حتى لو اقتصرت المنتجات على أصناف بسيطة مثل المشروبات الغازية أو المثلّجات.

كانت الشركات في السابق تستطيع تقسيم رسائلها بين مختلف البلدان، أو ربما تتجنّب التعليق على الصراعات بالكامل. لم يعد هذا الموقف ممكناً في عالمٍ بات يعجّ بوسائل الإعلام الرقمية وتحوّل فيه المستهلكون إلى ناشطين اجتماعيين. لكنها ليست المرة الأولى التي تضطرّ فيها الشركات لتجاوز اضطرابات جيوسياسية شائكة ذات عواقب دائمة.

كانت «كوكا كولا» من أولى العلامات التجارية التي اشتهرت عالمياً ووجدت نفسها بين طرفَي الصراع خلال إحدى الحروب. يفصّل مارك بيندرغراست في التاريخ الذي دوّنه عن الشركة كيف دفع النقص في السكر وتركيبة «كوكا كولا» بماكس كيث، الذي كان يدير الوحدة الألمانية التابعة للشركة خلال الثلاثينات والأربعينات، إلى تطوير مشروب غازي بديل للحفاظ على المبيعات، فيما افتقر المقرّ الأميركي الرئيس إلى المشروب الأصلي. ارتكز المشروب الجديد، «فانتا»، وهو واحد من منتجات بديلة انتشرت في تلك الحقبة، على مقتطفات متعلّقة بنكهة الفاكهة، بما في ذلك مصل اللبن وألياف التفاح.

بما أن المشروب الذي بيع باسم «فانتا» لا يزال مشهوراً في أوروبا ويستمرّ بيعه في الولايات المتحدة، يتمّ اختصار قصته الأصلية بطريقة مُضلّلة على الإنترنت، فيُقال إن «فانتا نشأت من أجل ألمانيا النازية». لكن يوضح بيندرغراست أن المشروب الذي يُباع اليوم لا علاقة له بالوصفة التي استُعمِلت في الحقبة النازية. خلال الخمسينات، دفعت المنافسة الدولية المحتدمة مع «بيبسي» بمديري «كوكا كولا» إلى البحث عن طرق جديدة لتحسين مبيعاتهم. لكن واجهت الشركة تجربة شائكة أخرى حين انجرّت إلى الصراع العربي الإسرائيلي خلال الستينات.

أصبحت منطقة الشرق الأوسط، وعلى رأسها مصر، سوقاً كبيرة لمنتجات «كوكا كولا» بعد الحرب العالمية الثانية. طرحت الشركة نفسها كشريكة في حملة تحديث مصر، فتطرّقت إلى ما تفعله لتحسين مستوى المعيشة هناك عبر استثماراتها وتأمين فرص العمل، وبذلت قصارى جهدها لتجنّب اعتبارها أداة للقوة الأميركية.

لكن تعثّر هذا الهدف حين وجدت «كوكا كولا» نفسها في صلب الصراع العربي الإسرائيلي. في العام 1966، اتّهمت «رابطة مكافحة التشهير» (جماعة تدافع عن اليهود في الولايات المتحدة) الشركة بالرضوخ لمقاطعة العرب إسرائيل لمجرّد أن «كوكا كولا» لم تمنح شركة إسرائيلية لتعبئة المشروبات الحقّ بفتح فرع باسمها، مع أنها وافقت على طلب مماثل في أماكن أخرى من الشرق الأوسط.

أنكرت الشركة هذه التهمة على اعتبار أن إسرائيل غير مناسبة لهذا العمل بكل بساطة. لكن يكتب بيندرغراست أن عدداً كبيراً من الأميركيين اليهود ثار غضباً، ثم توسّعت حملة مقاطعة الشركة سريعاً. في المرحلة اللاحقة، وجدت «كوكا كولا» شريكاً إسرائيلياً في محاولة منها لحماية سوقها الأميركية.

ربما نجحت الشركة في معالجة هذه المشكلة، لكن سرعان ما ظهرت مجموعة أخرى من المشاكل. كان دخول «كوكا كولا» إلى السوق الإسرائيلية ينتهك حملة المقاطعة العربية بكل وضوح. بدأت هذه الحملة في العام 1945، وكانت تمنع في البداية جميع الدول العربية من شراء المنتجات المصنوعة في القطاع اليهودي من فلسطين. ثم توسّعت الحملة كي تشمل أي أطراف اقتصادية تتعامل مع إسرائيل وتخدم مصالحها حول العالم. فجأةً، وجدت «كوكا كولا» نفسها في مأزق اقتصادي بسبب اضطرابات تلك المنطقة.

بذلت الشركة قصارى جهدها لتحسين الوضع، وركّزت على دورها في تحديث العالم العربي وتحسين نموه الاقتصادي. لكن لم تقتنع الجامعة العربية بهذا الموقف، فصوّتت على قرار مقاطعة «كوكا كولا». فُرِض حظر رسمي في العام 1967، واضطرت الشركة للانسحاب من العالم العربي بحلول العام 1968.

ثم راقبت الشركة توسّع الرابط بين علامتها التجارية والإمبريالية والصهيونية في أنحاء العالم العربي. كانت عودتها إلى الأسواق العربية خلال الثمانينات مرتبطة بتراجع التوتر مع إسرائيل تدريجياً. في غضون ذلك، انتقلت مصانع تعبئة المشروبات العربية التي تعاونت معها «كوكا كولا» سابقاً إلى منافسة شركات المشروبات الغازية، فتعرّضت «بيبسي» و»كوكا كولا» وخصوم آخرون لضربة موجعة.

جاء الغزو الروسي لأوكرانيا في العام 2022 ليوضح التفاوت القائم بين مصالح الشركات والضغوط التي تتعرّض لها كي تتخذ موقفاً من الصراعات. أقدمت الشركات التي أمضت عقوداً وهي ترسّخ حضورها في روسيا على تعليق عملياتها في ذلك البلد طوعاً أو رحلت تزامناً مع فرض العقوبات الدولية.

لكن بدت الأزمات من صنع الشركات نفسها في بعض الحالات. كانت شركة «بن أند جيري» التي تُصنّع المثلجات في «فيرمونت» قد تجاوزت للتوّ الجدل المرتبط ببيع منتجاتها إلى إسرائيل حين قرّرت اتخاذ موقف منحاز في الصراع الروسي الأوكراني. في شهر شباط من تلك السنة، قبل أيام قليلة على بدء الحرب، غرّدت حسابات الشركة على مواقع التواصل الاجتماعي: «لا يمكن منع الحرب والاستعداد لها في الوقت نفسه. ندعو الرئيس بايدن إلى منع تصعيد الاضطرابات والسعي إلى إرساء السلام بدل التحضير للحرب، إرسال آلاف الجنود الأميركيين الإضافيين إلى أوروبا رداً على التهديدات الروسية ضد أوكرانيا لن يُحقق شيئاً إلا تأجيج الحرب».

كان الفريق المسؤول عن هذه التغريدة يهدف على الأرجح إلى ترسيخ هوية العلامة التجارية كرمز للثقافة المضادة، لكن بدت تلك التغريدة خاطئة على جميع المستويات، فقد ورّطت الولايات المتحدة في خلاف لم تكن جزءاً محورياً منه، ودعت ضمناً إلى نزع سلاح أوكرانيا في وجه حملات الترهيب الروسية، وتركت الوضع رهينة للظروف: عندما أقدم الجيش الروسي على غزو أوكرانيا وبات الرأي العام العالمي (أو الغربي) يميل إلى دعم المقاومة الأوكرانية بأقوى الوسائل، اتّضحت محدودية تلك التغريدة وتداعياتها السلبية.

ربما توقّع فريق «بن أند جيري» المخاطر المطروحة وقرر كتابة التغريدة رغم كل شيء. أو ربما لا تزال روحية المؤسس الأصلي بن كوهين تُخيّم على الشركة، علماً أنه يلوم الاستفزازات الأميركية على الغزو الروسي. أو ربما افترض المعنيون أن الاعتراض المستمرّ على الحرب سيكون مؤشراً مكلفاً، فيؤكدون بذلك على موقف الشركة كرمز للثقافة المضادة. في النهاية، قد يهدف هذا النوع من المواقف الصادرة عن الشركات إلى زيادة قيمة العلامة التجارية أيضاً. قد يفضّل مديرو العلامات التجارية العاديون الابتعاد عن الصراعات، لكن قد يرصد أصحاب الرؤية الاستراتيجية فرصة لإطلاق شكل من الرأسمالية الناشطة.

منذ ذلك الحين، عبّرت العلامة التجارية عن دعمها لـ»صوت البرلمان» (كتلة تمثيلية دائمة للأمم الأولى في البرلمان الأسترالي)، وأصدرت بياناً في عيد الاستقلال الأميركي مفاده أن الولايات المتحدة تأسّست على أراضي السكان الأصليين المسروقة، ورفعت دعوى ضد شركتها الأم «يونيليفر» بسبب بيع منتجاتها في إسرائيل والضفة الغربية. هذه التحرّكات أطلقت حملات مقاطعة واسعة وأجّجت الانتقادات من مسؤولين محافظين مثل السيناتور مايك لي (جمهوري عن ولاية يوتا) والناقد بن شابيرو، لكن من المستبعد أن تؤذي هذه الانتقادات العلامة التجارية وسط عملائها الأوفياء.

باختصار، تبقى العلاقات الدولية بالغة التعقيد. قد تتحوّل الخطوات العبقرية اليوم إلى إخفاق كبير مستقبلاً. وقد تُحوّل الأحداث المتبدلة أي رسالة مدروسة ظاهرياً أو صفقة عمل حميدة إلى كارثة مفاجئة على مستوى العلاقات العامة.

وحتى تاريخ الشركات قد يتحوّل إلى قنبلة موقوتة حين تظهر وقائع محرجة بطريقة غير متوقّعة. رغم أمجاد شركة «بروكس براذرز» خلال الحرب الأهلية الأميركية مثلاً، تعكس النسخة التي تقدّمها الشركة عن تلك الأحداث مجموعة انتقائية من الوقائع. في هذا السياق، يكتب المؤرخ مارك ويلسون أن الشركة تعهّدت بصناعة 12 ألف زيّ موحّد لصالح نيويورك عبر استعمال قماش الجوخ المكلف والصوف، لكنّها استخدمت في النهاية مواد أقل كلفة. اعتبر المجلس التشريعي في تلك الولاية الزيّ النهائي رديئاً، لكن لا يظهر هذا التقييم السلبي على موقع الشركة الإلكتروني.

قد تشهد السنوات المقبلة مشاكل إضافية من هذا النوع. من المتوقّع أن يُسبّب صعود الصين تحديداً مشاكل عدة للشركات التي تضطرّ للاختيار بين مواقف بكين الصارمة من مسائل مثل التبت وتايوان، وقيم مثل حرية التعبير أو وضع الأسواق في أماكن أخرى. يكفي أن نراجع ما أصاب دوري كرة السلة الأميركي. عندما كتب مدير عام فريق «هيوستن روكتس»، داريل موري، تغريدة لدعم المحتجين في هونغ كونغ، في العام 2019، تعرّض الدوري ككل لضربة موجعة لأنه يتكل على الصين لتلقي عائدات دولية كبرى ويقوم مالكو النادي باستثمارات واسعة في جمهورية الصين الشعبية.

فيما يتجه العالم إلى تجديد توازنه بين الغرب وبقية الدول، ستضطر الشركات التي استفادت من توسّع الأسواق العالمية للتعامل مع تحديات أكثر خطورة. ستواجه العلامات التجارية وشركاتها الأم صراعاً دائماً بين اتخاذ المواقف وتجنب النزاعات. وفي ظل تسارع الصراعات المحتدمة حول العالم، لا مفر من أن تتصاعد الضغوط الاجتماعية والسياسية المرتبطة بتلك الخيارات.


MISS 3