رحيل "بطل الكاوبوي"... كيسنجر يترك بصماته في "صفحات التاريخ"!

02 : 00

شي خلال استقباله كيسنجر في بكين بتاريخ 20 تموز الفائت (أ ف ب)

طويت فجر أمس آخر صفحة من حياة وزير الخارجية الأميركي السابق هنري كيسنجر بعد قرن كامل من الزمن، انتقل خلاله من جحيم ألمانيا النازية، مروراً بجامعة «هارفرد»، وصولاً إلى قيادة ديبلوماسية «العالم الحرّ» خلال الحرب الباردة، حيث أدّت «ديبلوماسيّته المكوكية» و»واقعيّته السياسية» من أقصى شرق آسيا إلى أميركا اللاتينية، دوراً فاعلاً ورئيسيّاً، ليرحل عن هذا العالم تاركاً بصماته في «صفحات التاريخ».

وكان للنازية تأثير عميق على الشاب اليهودي الألماني هاينز ألفرد كيسنجر، الذي ولد في 27 أيار 1923 في فورث في مقاطعة بافاريا، وقد اضطرّ للجوء إلى الولايات المتحدة في سنّ الـ15 مع أبيه المعلّم وبقية عائلته عام 1938. وحصل على الجنسية الأميركية في سنّ الـ20، وانضمّ إلى وحدة مكافحة التجسّس العسكرية في الجيش الأميركي الذي سافر معه إلى أوروبا كمترجم باللغة الألمانية.

وبعد الحرب العالمية الثانية، عاد لاستئناف دراسته، فالتحق بجامعة «هارفرد»، حيث حصل على شهادة في العلاقات الدولية، قبل أن يقوم بالتدريس هناك ويُصبح أحد مديري الجامعة العريقة. عندها، بدأ الرئيسان الديموقراطيان جون كينيدي وليندون جونسون في استشارة هذا الأستاذ اللامع والطموح.

لكنّ الرجل الذي اشتهر بنظّارتيه السميكتين، فرض نفسه الوجه الرئيسي للديبلوماسية العالمية عندما عيّنه الرئيس الجمهوري ريتشارد نيكسون في البيت الأبيض مستشاراً للأمن القومي في العام 1969 ومن ثمّ وزيراً للخارجية، وقد احتفظ بالمنصبَين معاً من 1973 إلى 1975، الأمر الذي لم يسبق له أن حصل في تاريخ البلاد ولم يتكرّر في ما بعد. وبقي كيسنجر في وزارة الخارجية في عهد الرئيس جيرالد فورد حتّى عام 1977.

وخلال تلك الحقبة، أطلق كيسنجر نظرية «الواقعية السياسية» الأميركية، فباشر مرحلة انفراج مع الاتحاد السوفياتي، التي تجلّت بتوقيع معاهدة للحدّ من الأسلحة الاستراتيجية عام 1972، وإذابة الجليد في العلاقات مع الصين خلال عهد مؤسّس جمهورية الصين الحديثة ماو تسي تونغ، عبر رحلات سرّية انتقل فيها من باكستان إلى الصين لتنظيم زيارة نيكسون التاريخية إلى بكين في العام نفسه، التي قلبت موازين الحرب الباردة. وفي زيارة تبيّن بالأمس أنها كانت الأخيرة، التقى كيسنجر الرئيس الصيني شي جينبينغ في بكين في 20 تموز الفائت، حيث وصفه شي بأنه «ديبلوماسي أسطوري».

كذلك، قاد كيسنجر في سرّية تامة أيضاً، وبالتوازي مع قصف الجيش الأميركي هانوي، المفاوضات مع الزعيم الفيتنامي لي دوك ثو لإنهاء حرب فيتنام. وحاز عام 1973 جائزة «نوبل للسلام» مناصفة مع لي بعد التوقيع على اتفاق باريس للسلام، لكن الفيتنامي رفض الجائزة التي اعتُبرت الأكثر إثارة للجدل في تاريخ «نوبل».

واستطاع كيسنجر أيضاً تحقيق وقف إطلاق نار في حرب العام 1973 بين إسرائيل وسوريا ومصر، فيما كان نيكسون غارقاً بفضيحة «واتر غايت». فأطلق عندها كيسنجر ما عرف بـ»الديبلوماسية المكوكية» حيث زار خلال 34 يوماً، 16 مرّة القدس و15 مرّة دمشق، فضلاً عن سفره لـ6 دول أخرى. وتمكّن كيسنجر من المحافظة على أمن إسرائيل دون أن يتيح للاتحاد السوفياتي فرصة استغلال الحرب لإعادة تعويم نفوذه المتضائل آنذاك في الشرق الأوسط.

في المقابل، طالب منتقدو كيسنجر لفترة طويلة بمحاكمته بتهمة ارتكاب «جرائم حرب»، مندّدين خصوصاً بالجانب القاتم والأكثر إثارة للجدل والأقلّ انفتاحاً في سياسته الخارجية، وعلى وجه الخصوص ضلوعه في القصف المكثّف على كمبوديا، ما أدّى إلى ضرب حيادها وفتح الباب أمام «الخمير الحمر» للاستيلاء على الحكم أو دعمه الديكتاتور الإندونيسي سوهارتو الذي أدّى غزوه لتيمور الشرقية إلى مقتل 200 ألف شخص عام 1975.

وتعرّض كيسنجر أيضاً للانتقاد جرّاء الدور الذي لعبته وكالة الاستخبارات المركزية في أميركا اللاتينية، وغالباً ما كان ذلك تحت قيادته المباشرة، ما شوّه صورته، بدءاً بالانقلاب الذي وقع في تشيلي عام 1973 وأوصل الديكتاتور أوغستو بينوشيه إلى السلطة بعد وفاة الرئيس المُنتخب ديموقراطيّاً سلفادور أليندي. فعلى مرّ السنين، كشفت الوثائق الأرشيفية معالم ومدى اتساع «خطة كوندور» للقضاء على معارضي الديكتاتوريات في أميركا الجنوبية في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي.

إنّما رغم هذه الحلقات القاتمة، حافظ مؤلّف كتاب «النظام العالمي» و»الديبلوماسية»، على قدرته على التأثير، فظلّ حتّى وقت قريب وعلى الرغم من تقدّمه في السنّ، يُستشار من قبل الطبقة السياسية بأكملها في واشنطن ويجري استقباله من رؤساء دول ويلقي محاضرات في المؤتمرات في كلّ أنحاء العالم. وفي كانون الثاني الفائت، دعا إلى مواصلة الدعم لأوكرانيا، التي يجب، على ما كان يقول، أن تنضمّ إلى حلف «الناتو».

وصف الرئيس الأميركي السابق فورد، كيسنجر، بأنه وزير خارجية «سوبر»، لكنّه تحدّث أيضاً عن شخصيّته التي تتميّز بالتوتر والثقة بالنفس، في حين وصف كيسنجر نفسه في حديث لأحد الصحافيين بأنه «أحد أبطال الكاوبوي» (رعاة البقر).


MISS 3