حسان الزين

إهتزاز النظام العالمي: فقر فكري وضبابية

9 كانون الأول 2023

02 : 05

إنّها لحظة عالمية ضبابية وقاسية.

النظام السياسي السائد، منذ انهيار الاتحاد السوفياتي في مطلع التسعينات من القرن العشرين، يهتزّ ويتغيّر.

والمأساة مآسٍ.

أوّلاً، المأساة أنّ الإنسانَ، لا سيما في مناطق النزاعات، هو الحلقة الأضعف. وفيما الحروب المرافقة لاهتزاز النظام العالمي وتغيّره تقتل وتهجّر بالجملة، يتكشّف أن الأقوياء في العالم فوق القوانين الدولية، وأن «القيم الإنسانية» التي تعاهد عليها الفائزون بالحرب العالمية الثانية وبمنظّمتها الهرمية الأمميّة، وارتضت بها الشعوب، محكومة بطبقية تميّز بين البشر وحقوقهم وقيمهم؛

ثانياً، المأساة أن المستقبلَ غامضٌ. والحروب المتزايدة المندلعة بأسلحة فتّاكة تجزّئ الدمار والقتل لا تبشّر بالخير. وإذ كان هذا من طبيعة الحروب، فإن ارتباط الحروب الراهنة بالعالم وتغيّره (هي عالمية وموضعية في آن معاً) لا يبدّد الأمل فحسب، بل يجعل الحروب طويلة مفتوحة ودمويّة إلى أقصى الحدود التي صنعتها أنظمة السيطرة العالمية حتّى الساعة؛

ثالثاً، وليس أخيراً، المأساة أن العالم يتغيّر فيما يغيب عن الخطابات المعنية بذلك الإنسانُ والمجتمعُ و «طبيعة» الدول والنظم السياسية والاقتصادية، وحتّى العلاقات الدولية على أسس السلام والمساواة. فالصراع يندلع ويجري من أجل السيطرة على أراضٍ باعتبارها «رقع شطرنج»، وفق زيغنيو بريجنسكي، ومساحات نفوذ وممرات مصالح، أكثر مما هي أوطان لشعوب ودول يُفترض أن تحمي سكّانها وترعى حقوقهم ومصالحهم الداخلية والخارجية.

مع زوال الاتحاد السوفياتي، لم تكتفِ الولايات المتّحدة الأميركية بإعلان فوزها في الحرب الباردة، بل اعتبرت أن الليبرالية التي تعتمدها وتمثّلها انتصرت على الاشتراكية والاستبدادية اللتين اعتمدهما ومثّلهما خصمها المندحر، أو «المنتحر» وفق المنظّر الجيوسياسي الروسي ألكسندر دوغين. ومع إعلان أن الرأسمالية، وليس الاشتراكية والشيوعية كما تقول الماركسية، هي «نهاية التاريخ» وجنّة «الإنسان الأخير»، وفق المنظّر السياسي الأميركي فرنسيس فوكوياما، نُعي عصر صراع الأيديولوجيّات. وتحت وطأة ذلك، كُرِّست الليبرالية والديمقراطية والحداثة والعولمة قدراً واحداً أوحد للأمم. وإذ عكّر العدو الجديد، «الإرهاب» عموماً و»الإسلامي» منه خصوصاً، نشرَ الليبرالية والديمقراطية والحداثة والعولمة، بالحروب أو بالقوى الناعمة، خيّم «صراع الحضارات» على الكوكب. ومع صعودِ منافسٍ لقائد النظام العالمي هنا، وتمرّد ساعٍ من أجل نفوذ إقليمي هناك، وحرب هنا ونزاع هناك... اتضح أكثر فأكثر أن المصالح السياسية والاقتصادية تتقدّم على المبادئ والشعارات في العلاقات والتحالفات الدولية. هكذا، وبعدما صاحب اختفاء «شبح الشيوعية» عرس الليبرالية، دخل العالم مع حروب نشر الديمقراطية ومكافحة الإرهاب مرحلة زواج بارد بين سياسة الغرب وتحالفاته وبين المبادئ التي يدعو إليها. ولم يخلُ ذاك الزواج من تشكيك كثيرين في تماهي تلك السياسة مع المبادئ، بل التشكيك إلى حد الريبة أحياناً في المبادئ نفسها. وعلى الرغم من تنامي ذلك، إلا أن النقد لم يتبلور ولم يأخذ شكل تيارات فكرية وسياسية. ومع هدوء الجبهات الفكرية، وعوامل اقتصادية واجتماعية وسياسية وأمنية وإعلامية وتواصلية، انتشرت الشعبوية.

في الأثناء، لم ينتج خصوم النظام العالمي وزعيمته نظريات وفلسفات تتجاوز تسويغ تلك الخصومة والمواقف من النظام وزعيمته. فمعظم ما صاغه هؤلاء، وخصوصاً الذين قرّروا المنافسة أو المعارضة أو التمرّد، هو «تنظير استراتيجي» لصعودهم وتحرّكاتهم الخارجية. وعلى الرغم من أن الخصوم دول، وربما لهذا السبب، اكتفوا بتوليفاتهم الخاصّة من النظم السياسية والاقتصادية. ولكون هؤلاء، أو أبرزهم، إمبراطوريّات سابقة، خصّبوا ترساناتهم من الأسلحة النووية والعسكرية والهويّاتية.

وعلى هذه الحال من الفقر الفكري والضبابية، يهتز العالم، ويدخل حروباً حطبها الناس، وخصوصاً الذين اختارهم القدر الجغرافي والتاريخي ضعفاء أو في طريق الأقوياء والمستقوين.

ما العمل؟


MISS 3