عبدالله عبد الصمد

ينافسون ويبرّرون تخطّي القوانين بالحاجة

المشاريع اللبنانية الصغيرة في مهبّ رياح السوريين

19 كانون الأول 2023

02 : 00

صابون بلدي سوري صُنِعَ في لبنان

وصلت مُنى الى أحد منازل بلدة الزعرورية في إقليم الخروب. بلهجتها السورية تأكدت من اسم صاحب المنزل وأشَّرت عليه في جدول يعتلي أوراقاً مطبوعة وكتيب صغير. فيما اتجهت فتاة أخرى إلى منزل قريب. عرَّفت مُنى عن نفسها باسمها الأول فقط، وأنها تنتمي لإحدى جمعيات الإغاثة اللبنانية التي ستقوم بتوزيع مساعدات على عائلات محدَّدة، وقد أبرزت بطاقة غير رسميّة تحمل اسمها. سألت عن عدد أفراد الأسرة، مصادر الدخل، الأعمار، الوضع العائلي للأبناء، وغير ذلك. دوّنت المعلومات على استمارة من ثلاث صفحات، وغادرت تاركة وعداً بمساعدة لم تحصل، وتساؤلاً محقّاً عن فرص العمل الضائعة من الشباب اللبناني.



على موقع youtube، يروي أحد النازحين «قصة نجاح» ويقول إنه ترك سوريا ونقل عمله الى لبنان بسبب الحرب، من دون تحديد المنطقة. يُظهر التصوير غرفة صغيرة جعلها مصنعاً للصابون يفتقر الى أدنى مقاييس السلامة العامة، بحيث يُبيّن مقطع فيديو نشره على القناة ذاتها أطفالاً يتجولون في الغرفة أثناء التصنيع، غير آبهين بخطر هيدروكسيد الصوديوم NaOH (القطرون) الذي كان يتفاعل بالماء على بُعد سنتمترات قليلة منهم، فيما يُعلن هو عن أسعار تنافسيّة.





شغل لبنان

في المقابل تقول ناهدة، التي تملك مصنعاً صغيراً للصابون في إحدى القرى الشوفية، إنها طوَّرت تلك الصناعة القديمة خلال سنوات من العمل، مدخلة عليها تعديلات بالشكل وبالمواصفات الصحيّة، وباتت تعرض منتجاتها بأشكال فنيّة ملفتة. لكنّ المنافسة السورية في هذا المجال، أثّرت سلباً على التصريف. فتقول إن ثمن المواد الأولية التي تستخدمها للكيلوغرام الواحد قبل التصنيع يفوق ثمن كيلو الصابون الجاهز الذي يعرضه حرفيون سوريون، ففي كثير من الأحيان يُعرض بأقلّ من أربعة دولارات، أي أقلّ من تكلفة مواده الأولية في لبنان. وتتابع: إذا استمر الوضع على ما هو عليه فالعديد من الحرفيين اللبنانيين سيُقفلون مصانعهم ويمضون الى مصير اقتصاديّ مجهول.



محالّ خضار



حتى التجارة الالكترونية لم تسلم من المزاحمة، تقول زينة، وهي طالبة جامعيّة لبنانية، تدير تجارة صغيرة (أونلاين)، بحيث تعرض سلعاً في صفحاتها على مواقع التواصل الاجتماعي، ثم تشتري ما يُطلب منها من بائعي الجملة. تتعامل مع ثلاثة تجار، واحد منهم فقط هو لبناني يملك متجراً في صور، والآخران من الجنسية السورية، أحدهما يدير متجراً كبيراً في ضواحي العاصمة، والآخر يجعل من بيته في إحدى البلدات البقاعية مستودعاً نأى عن مضمار التراخيص القانونية. ولدى سؤالها عن نسبة التجار السوريين في هذا المجال بالتحديد، قالت إنها لا تستطيع التعرف الى جنسياتهم إلا بعد الحديث معهم عبر تطبيق WhatsApp، لكنها تتعامل مع من يعرض بأسعار أدنى بغضّ النظر عن مصدر بضائعه. صورة مصغّرة عن ثلاثة قطاعات مختلفة تختصر حال المنافسة في لبنان. فبالإضافة الى التجارة الالكترونية، والمستودعات غير المرخصة، المنتشرة في أكثر من منطقة لبنانيّة، قلا يخلو شارع أو حيّ من وجود مستثمر أو بائع أو صنائعيّ سوري، مدوَّن على تأشيرته عبارة «لاجئ» في كثير من الأحيان، كما يحصل في قلب بيروت وضواحيها. ففي حين يفرض المنطق أن تتركّز السلطات وتسمو القوانين عن التغاضي في العاصمة أكثر من المناطق، تجد حالها ليس أفضل أبداً. ففي أحد الشوارع المتفرعة من شارع الحمرا، حيث كانت الماركات العالمية تتزاحم على لافتات المحلات، مطمئنة الى عبق التاريخ ويُسرِ الأيام - آنذاك - يلفت انتباه الزائر الانتشار الكبير لمحلات يديرها سوريون. يعرضون ملابس تحمل علاماتها التجارية عبارة: «صنع في سوريا» بأسعار متدنية نسبياً، فيخال من يتجوّل فيه أنه في شارع الحمرا الدمشقيّ. ليحضر سؤالٌ لا بدّ منه: هل كلّ تلك البضائع أُدخلت بطريقة شرعية؟

هذا شأن آخر قد لا يتسع موضوعنا الآن للبحث فيه رغم المعطيات التي بحوزتنا، لكننا سنتابع شرقاً حيث يمتدُّ سوق شعبيّ معروف. يمكن للزائر أن يُحصي فيه ما يزيد عن 70% من الباعة السوريين من خلال لهجاتهم. وبالرغم من تأكيد أحد المسؤولين عن السوق أنهم لا يؤجرون إلا اللبنانيين، أو الأجانب المستوفين لشروط الإقامة والعمل، إلا أن كثيرين منهم يلتفون على القرار ويستثمرون تحت مسمى «عامل».



دخول على قطاع الحلاقة والتزيين



العجز يبطل التشريعات

تقدّم المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين UNHCR لللاجئين المقيمين في لبنان 20 دولاراً شهرياً عن كل فرد من الأسرة حتى خمسة، و25 دولاراً للأسرة كلها، بالإضافة الى مصاريف الدراسة التي تتكفل بها الأمم المتحدة وبعض الجهات المانحة. «نداء الوطن» توجهت إلى «أبو أحمد»، وهو لاجئ ( بصفة نازح) سوريّ مقيم في إقليم الخروب، يعيش مع زوجته وخمسة أولاد. عن نوع عمله أجابنا أنه يعمل في كل شيء.»مسبّع الكارات» سألناه أن يحدّد أكثر. فأكّد أنه يُتقن من المهن: التبليط، التوريق، تركيب الأدوات الصحية، أعمال بناء... كل عمل متاح يمكنه تنفيذه. ثم تابع أن برنامج المساعدات في المفوضية قلَّص عدد المستفيدين من التقديمات الى حدّ كبير هذا العام، فحُرمت منه عائلات كثيرة، رغم أنه ليس ذا أهمية كبيرة. وابدى احتجاجه على أن التقديمات لا تكفي عائلة مكونة من خمسة أفراد لأسبوع واحد ولا تسدّ حاجة، لذلك يضطر الجميع للعمل، بغض النظر عن المهن الممنوعة أو المسموحة طالما يتوافر المشتري أو المتلقّي. وقد أظهرت وثائق ورسائل هاتفية على هاتفه الخلوي رشاوى قدّمها لأشخاص مولجين بتطبيق القوانين بغية غضّ النظر عن عمله المخالف لقرار وزارة العمل المتعلّق بالمهن الواجب حصرها باللبنانيين فقط، والصادر في العام 2021. قرار وزارة العمل لم يبقَ يتيماً في هذا الصدد، فقد صدر عن وزارة الداخلية والبلديات تعميمان يرعيان الموضوع ذاته. التعميم رقم 42 تاريخ 2 ايار 2022 الذي طلب من البلديات «اجراء مسح ميداني لكافة المؤسسات واصحاب المهن الحرة التي يديرها النازحون السوريون والتثبت من حيازتها على التراخيص القانونية». و التعميم رقم 74 تاريخ 22 ايلول 2022 الذي أوجب في متنه: «قمع المخالفات المتعلقة بالمحلات التي تستثمر ضمن النطاق البلدي من قبل سوريين دون حيازة التراخيص اللازمة».

في المقابل، حرصت التشريعات اللبنانية على توفير الحماية القانونية للاجئين، فقد خوَّلت الحاصل على إقامة مؤقتة منهم بالعمل في لبنان، ضمن شروط محدّدة تحميهم ولا تضرّ باقتصاد الوطن.






محمد شمس الدين



المشكلة ليست بالتشريعات والقرارات إنما بجديّة تطبيقها، هذا ما يقوله محمد شمس الدين الباحث في «الدولية للمعلومات». ويضيف، حتى الآن لم تتمكّن بلديات عديدة من إنجاز المسح المطلوب منها لعدد النازحين السوريين في نطاقها البلدي. حتى الأجهزة الأمنية المولجة بتطبيق القوانين والقرارات لم تعد قادرة على ضبط هذا التوسع. وبالتالي، كل قانون أو قرار يصدر يلزمه من ينفذه، وإلا يفقد قيمته الحقيقية ويصبح بلا جدوى طالما لم يجد من يرعى تطبيقه على أرض الواقع. هذا بالإضافة الى أكبر المعوقات، وهو الفساد المستشري في أكثر من إدارة في الدولة اللبنانية. وبرأيه الحلّ يبدأ بقرار جديّ بمكافحة الفساد، ثم الانتقال الى تطبيق القوانين والقرارات. «مجلس الوزراء أخذ على عاتقه متابعة مشكلة النزوح السوري بجديّة، وحلها بالطرق الإنسانية والقانونية، لكن العائق الحقيقيّ أمامها هو امتناع المنظمات الدولية عن التعاون مع الحكومة اللبنانيّة في ملف النزوح، مما ينعكس سلباً على قدرة تعامل الوزارات المعنية مع الملف».


هذا ما أعلنه وزير العمل مصطفى بيرم لـ»نداء الوطن» لكن مع تسلّم الأمن العام مؤخراً قاعدة البيانات الخاصة قد يسهل عمل الوزارات المعنية. وأضاف بيرم: «رغم ذلك بقيت وزارة العمل حريصة على تنظيم العمالة الأجنبية من خلال اتباع أمرين، الأول، أنها لا توافق للأجانب على ممارسة المهن المحصورة باللبنانيين. والثاني، أنها لا تمنح إجازات عمل مرتبطة بشركات التوصية البسيطة لغير اللبنانيين». لكنه لا يُخفي عجز الوزارة عن تحقيق كل ما هو مطلوب منها بسبب نقص عدد المفتشين فيها، نتيجة وقف التوظيف، والمعوقات اللوجستيّة والمالية التي يفرضها الوضع الاقتصادي.



وزير العمل مصطفى بيرم



أسعد زغيب



وللبلديات دورها

الى جانب الإدارات الرسمية وأجهزة الدولة، تبرز البلديات كسلطات محلية لها الدور الرئيس في تقويم أي خلل يطرأ في نطاقها البلدي، وقد منحها القانون صلاحيات واسعة للتحرك. «نعامل السوريين كأجانب وليس كلاجئين، نصون حقوقهم ونحمي حريتهم من خلال تطبيق جميع التعاميم والقرارات الرسمية الصادرة، وبالتالي نحمي مواطنينا من نفاد فرص العمل، فيأخذ كل ذي حقّ حقّه» هذا ما قاله لنا رئيس بلدية زحلة أسعد زغيب. وأضاف، بناء على ما تقدَّم، لا تسمح بلدية زحلة لأي أجنبي بالعمل في نطاقها إلا إذا كان مستوفياً الشروط القانونية المطلوبة. قد تحصل بعض المخالفات، فهناك من يديرون أعمالاً بصفة «عمال»، لكن البلدية تسعى الى ضبطها. مع دخول مئات الآلاف من اللاجئين مع اندلاع الحرب السوريّة في العام 2011، بدأ سوق العمل يضجّ بالمنافسين. ومع تفاقم الأزمات، ووصول أعدادهم الى أكثر من مليون ونصف سوري مقيم على الأراضي اللبنانية تبخرت فرص العمل. هذا الإحصاء غير رسميّ، فالحكومة اللبنانية ما زالت لا تملك أرقاماً صحيحة، والمفوضيّة السامية لشؤون اللاجئين في لبنان أعلنت أنها قد توقفت عن تسجيلهم منذ أيار 2015. لذلك كل الأرقام المعلنة أو المسرّبة قد لا تُعتبر دقيقة ولا يمكننا البناء عليها. بغضّ النظر، لا يسعنا إلا الاعتراف بأن عمر أزمة المنافسة من عمر الأزمة السورية، وهي في ازدياد واضح. في الأمس كانت آفاق العمل أرحب والكتلة النقديّة أفعَل، وكان اهتمام الناس بالمنافسة الأجنبية أقلّ. أما اليوم وقد سُلبت منهم الطمأنينة مع اختلال الأمن الاقتصادي، بات للمستقبل طريقان لا ثالث لهما، إمّا أن تتحرك أجهزة الدولة بكل فعاليتها، يداً بيدّ مع النقابات والبلديات والمجتمع المدني، وإما سنشهد ارتفاعاً مخيفاً لهجرة الشباب، تاركين البلد في مهب التغيير الديموغرافي.


MISS 3