مصطفى علوش

جعل غزة غير قابلة للحياة... هو الهدف

19 كانون الأول 2023

02 : 00

«وما الحربُ إلا ما علِمتُم وذُقتُم وما هو عَنها بالحَديثِ المرَجَّمِ

فتعرُككم عركَ الرَّحى بثِفالِها وتلقح كِشافاً ثم تَحمِل فَتُتئِمِ»

(زهير بن أبي سلمى)

لو كان صحيحاً أنّ العقلية الإسرائيلية المؤسسة للصهيونية العنصرية اليهودية تريد التطبيع والسلام مع الفلسطينيين ومع العرب، لكنا شهدنا نهضة اقتصادية وثقافية واجتماعية تشمل الضفة الغربية وقطاع غزة، برعاية إسرائيلية تجعل من حب الحياة لدى الفلسطينيين يتغلّب على تفضيل الموت على الحياة في الذل والفاقة. لكن، ما هو جلي، فإنّ الإفقار والإذلال المقصودين كسياسة دائمة ومنهجية من قبل قيادات إسرائيل منذ سنة 1948 هما المسيطران على واقع الإنسان الفلسطيني.

من يظن منا أنّ سياسات هذه الصهيونية هي مجرد عامل انتقام أو ردة فعل عن تاريخ أسطورة عمرها ثلاثة آلاف سنة، عن ملك بائد وهياكل مدمرة ونفي وشتات وعن الشعب المختار، أو عن غيتو ومجازر وهولوكوست، يبقى قاصراً عن تفسير هذه السياسة الإسرائيلية التي اتبعها جميع قادة الكيان الصهيوني، وإن بخطابات مختلفة، أكانوا من اليمين المتطرف أو الوسط أو اليسار، فالمنطق قد يقول إنّ من يتعرض للتنكيل، أو يحمل ذاكرته، قد يتعاطف مع الآخرين، أو ينتقم بشكل عشوائي ممن أذلوه عندما يقدر، أو يحوّل الانتقام على من هو أضعف منه كبديل.

لكن الأمر غير كل ذلك، فكل قادة الصهيونية تقريباً يعتبرون أنّ بقاء إسرائيل، واستمرارها بأداء دورها الموكلة به إقليمياً، مبنيّ على كونها مثل مدينة أسبرطة الإغريقية التي كانت تتقن وتتفوق في فن الحرب الدائمة والتحفّز المستمر للقتال كما استعباد الآخرين. ومن يظن أنّ الأمر مجرد تشبيه خيالي، عليه دراسة عقلية الحاخامات عبر التاريخ، الذين استفادوا، لا بل استدرجوا، الآخرين للعداء ضدهم، فيما أصبح شعاراً للمظلومية اليهودية هو «معاداة السامية» استفادت منه الحاخامية لتأمين أكبر قدر من التقوقع الداخلي كملاذ آمن. في العصر الحديث، تطور هذا الشعار التضليلي الذي فرضته وسائل إعلام موجهة، وقوانين غربية ذات طابع استنسابي لمحاربة معاداة السامية، لإرهاب كل من تسول له نفسه حتى مجرد التساؤل عن ممارسات الصهيونية في فلسطين، أو حتى في أي بقعة من بقاع العالم.

من هنا، فمن يظن أنّ العالم الغربي، وبالأخص الولايات المتحدة الأميركية، يخدم إسرائيل، مخطئ أيضاً في تحليل الأمور. فما رأته القوى الاستعمارية الغربية، من نابوليون في حملته الشرقية، إلى دزرائيلي إلى بلفور في الإمبراطورية البريطانية، ومن ثم إلى الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ ستينيات القرن الماضي، هو أنّ إسرائيل هي كيان مزروع في هذه المنطقة بالذات كامتداد استراتيجي لسلطة الغرب، تضاعفت أهميته بعد تفاقم حركات التحرر من الاستعمار في المنطقة، وصارت كلفة الاستعمار المباشر كبيرة وخطرة، فكانت إسرائيل إحدى الوسائل لاستدامة الاضطراب وإشغال الناس عن مسيرة النمو والمنافسة ودفعها إلى صرف الأموال والمدخرات على السلاح وعلى جرف الدمار وعلى إعادة الإعمار ومن ثم هجرة النخب وهدر الحيوات.

هذه السياسة ليست غافلة عن الغرب بشكل عام، وعلى الولايات المتحدة الأميركية بالذات، وما مماطلة نتنياهو في تنفيذ التوصيات العلنية لبايدن بشأن تخفيف الخسائر البشرية كما المعاناة الإنسانية إلا لأنّ الإثنين متفاهمان على السياسات التدميرية المعتمدة لدى الصهيونية منذ زمن طويل. ومن يتساءل فليعد للفيتو الأميركي في مواجهة حتى المطالبة الأممية بوقف نار إنساني.

ما أعنيه هو أنّ حياة هذا الكيان مرتبطة في خدمة مصالح الغرب بأشكاله الاستعمارية المتعددة، ويمكن القول إنّ قتلى إسرائيل هم أيضاً في سبيل خدمة هذا المشروع وليس العكس. فلو كان الهدف أساساً هو التعويض عن الظلم التاريخي بحق اليهود، لكان الأجدى حفظهم ورعايتهم في الغرب، بدل رميهم في أتون صراع لا ينتهي في فلسطين.

بعض اليهود لم يعودوا غافلين عن تلك السياسة المعتمدة وطرحوا إشكاليات ضمن المؤسسات العسكرية والأكاديمية. «أريه اسحق» مثلًا، هو أحد كبار مؤرخي الجيش الإسرائيلي، بعد دراسته لوقائع حرب 1948، صرَّح بما يلي في محاضرة له في جامعة «بار إيلان»: «إن الوقت قد حان لمواجهة بحور الكذب التي نسجناها. في كل قرية استولينا عليها في حرب الإستقلال قام رجالنا بأعمال يمكن وصفها بجرائم حرب كالقتل العشوائي والمجازر الموصوفة والاغتصاب. بالنسبة للكثير منا كنا نختبئ وراء كذبة أساسها أنّ العرب تركوا أراضيهم استجابة لنداء زعمائهم، وهذه في الواقع مجرد افتراء! فالسبب الأساسي لهروبهم كان الخوف المبرر، ففي كل قرية احتلها جيش الدفاع، كانت أخبار المذابح واضحة وثابتة، وفي كثير من الأحيان خارج إطار المعركة، فإن كان بعض الزملاء الأكاديميين يرفضون تسمية هذه الأعمال بجرائم حرب، فأنا لا أجد لها اسماً آخر».

ما يحدث اليوم في غزة هو استكمال لسياسة العداء والتدمير المستمرين، وما نراه يهدف إلى جعل قطاع غزة بأكمله غير قابل للعيش فيه حتى ولو أصر الفلسطينيون على البقاء، أو فقدوا سبل الخروج من القطاع، فإنّ الزمن سيتسبب بتسرب من هو قادر لأنّ الحياة ستستمر بعد الحرب، وعلى من هم باقون على قيد الحياة، أن يسعوا وراء الرزق حيث يجدوه. ما يفعله العدو اليوم هو جعل غزة والضفة الغربية استلحاقاً أرضاً غير مجدية للسعي للرزق. ما على اللبيب إلا أن يستبين.


MISS 3