جو حمورة

خرقٌ ليبرالي في "أرض التانغو": خافيير ميلي رئيساً للأرجنتين

22 كانون الأول 2023

02 : 01

سيستمرّ الجدل حول شخصية ميلي ونهجه السياسي لأشهر وربّما لسنوات طويلة (أ ف ب)

في كانون الأول 2023، دوّى صوت «التانغو» بشكل مختلف في الأرجنتين، مهد تلك الموسيقى الرشيقة، كرة القدم، والمتاهات الاقتصادية الدائمة. فقد صعد على مسرح السياسة خافيير ميلي، وهو ليبرالي غير تقليدي حدّ «غرابة الأطوار» ملوّحاً بشعاره الانتخابي «Viva la Libertad Carajo»! (تحيا الحرّية اللعينة!)، ومحطِّماً هيمنة الأحزاب التقليدية بعدما أخذ دعماً من الفئات الشعبية المتعطّشة للتغيير الجذري.

كيف تمكّن ميلي من تحقيق هذا الانتصار المذهل والظفر برئاسة البلاد؟ يبرز من عوامل فوزه خطابه الصاخب المناهض للنظم القائمة (Establishment)، حيث وعد بتفكيك «الدولة السمينة» وخفض الضرائب وتعزيز حرّية السوق. استغلّ «رئيس الأمة» الجديد الإحباط العام من التضخم الجامح وانعدام الأمن، واستعان بطرق غير تقليدية للتواصل، بما في ذلك الاستفادة من وسائل التواصل الاجتماعي وحضور البرامج الحوارية التلفزيونية بأسلوبه النشيط والمستفزّ.

لكن، ما هي الأفكار التي يحملها رئيس الأرجنتين الجديد؟ وما هو موقفه من القوى والمواضيع العالمية والمحلّية؟ يُعتبر ميلي من أتباع الليبرالية المتشدّدة، ويدعو إلى خفض الإنفاق العام، وخصخصة البرامج الاجتماعية والأجهزة الحكومية، وإلغاء العملة الوطنية واستبدالها بالدولار. لم تبقَ هذه الأفكار حبراً على ورق، بل هو بدأ بالفعل تطبيق بعضها منذ الأيام الأولى لوصوله إلى الرئاسة، حيث ألغى نصف الوزارات وأعاد هيكلتها مبقياً على عدد محدود منها، كما وقّع على مرسوم يرفع قيود صادرات الحبوب لتعزيز الزراعة، وحدّد سقف انفاق الإدارات العامة.

على الصعيد الدولي، هو معجب صريح بالرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، ويتشاطر معه بعض الآراء الشعبوية المرتبطة بالاقتصاد وأسلوب العمل السياسي والإعلامي وكرهه للقوى اليسارية وأفكارها «المنحلّة»، بحسبه. كما يُعبّر ميلي، من دون مواربة أو خجل، عن تحفظه تجاه المنظمات العالمية، ويدعو إلى سياسة خارجية براغماتية تركز على المصالح الوطنية حصراً. أما داخلياً، فيرفض التصنيف الأيديولوجي التقليدي (يمين ويسار)، ويقدم نفسه منقذاً لبلاده من خارج اللعبة الحزبية واصطفافاتها. ومع ذلك، يُصنّفه البعض كيميني متطرّف بسبب اقتراحاته بجواز حيازة السلاح الفردي وتقليل استخدام المخدّرات والتركيز على الأدوار الطبيعية للمرأة والرجل في المجتمع.

يُثير فوز ميلي قلقاً لدى البعض وفرحاً لدى آخرين. يرى مناصروه فيه أملاً لإنقاذ الأرجنتين من أزمتها الاقتصادية الطويلة، بينما يُحذّر منتقدوه من مخاطر سياساته المتطرّفة وارتداداتها الاجتماعية المحتملة. يبقى من الصعب التنبؤ بمستقبل حكم ميلي، لكنّه، بلا شك، يُمثل منعطفاً حاداً في تاريخ الأرجنتين حيث تتشابك الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، وتحدّياً للنظام السياسي القائم فيها وربّما في أميركا اللاتينية ككل. سيستمرّ الجدل حول شخصية ميلي ونهجه السياسي لأشهر وربّما لسنوات طويلة، فالبعض يراه منقذاً «من خارج الصندوق»، و»نبيّاً ليبرالياً» يحمل مشعل الحرّية إلى الأرجنتين الغارقة بالأزمات، فيما يعتبره آخرون مجنوناً يلعب بالنار، ويُهدّد استقرار بلاده الهشّ بخطواته المتسرّعة.

بغضّ النظر عن هذا التصنيف أو ذاك، لا يُمكن إلّا الإقرار بأنّ فوز ميلي يُمثل ظاهرة سياسية واجتماعية تستحق التأمل والتحليل. إنّه تحدٍّ للنظام القائم، وصوت صارخ لطبقات اجتماعية محبطة تُريد التغيير الجذري حتى ولو كان فيه مغامرة قد تُنذر بالأسوأ.

في ظلّ هذا المشهد المتقلّب، يحمل عهد ميلي إشارات أكاديمية مثيرة للتأمل. يطرح صعوده تساؤلات حول تأثر الناخبين بالشعارات الشعبوية والتواصل غير التقليدي، كما يكشف عن مدى استياء الطبقات الوسطى من النظم التقليدية وحنينها إلى الحلول الجذرية. يفتح فوزه أيضاً باب النقاش حول جدوى الليبرالية المتشدّدة في معالجة مشكلات التنمية المستدامة وإدماج الفئات المهمّشة، وهي مواضيع سيكون مثيراً البحث حولها بعد فترة.


MISS 3