عيسى مخلوف

وقفة من باريس

العودة إلى الطبيعة من بوّابة الوباء

20 حزيران 2020

02 : 00

أقيمت في السنوات الماضية معارض عدّة تتمحور حول الطبيعة، ومنها المعرض الذي نظّمته في باريس "مؤسّسة كارتييه" وعنوانه "نحن الأشجار"، وكان قد استمرّ حتى الخريف الماضي، أي قبل أسابيع قليلة من انتشار وباء كورونا. هذا المعرض الذي واكبه صدور الكثير من الكتب حول الموضوع نفسه، وسبق أن أتينا على ذكره في هذه الصفحة، تناول الوضع الراهن للغابات والأشجار وللمخاطر التي يتعرّض لها التوازن البيئي في العالم أجمع، كما كشف عن نتائج الأبحاث العلميّة المتعلّقة بالحياة النباتيّة وبوجود ذكاء نباتيّ يساعد على التواصل والتنبُّه إلى الخطر الخارجي.

أكّدت هذه المعارض والكتب، بشكل أساسي، على العلاقة المصيريّة التي تربط بين الإنسان والبيئة، وكيف أنّ استباحة البيئة، كما حدث في العقود الأخيرة، تطرح علامة استفهام على وجود الإنسان نفسه. وهذا ما يختصره الفيلسوف الإيطالي إيمانويلي كوتشيا، صاحب كتاب "حياة النبات"، بقوله: "لا يوجد شيء بشري محض. يوجد نبات في كلّ شيء بشريّ. هناك شجرة في أصل كلّ تجربة".

مع وباء كورونا، ازداد الالتفات إلى موضوع البيئة الذي كان محصوراً في المدافعين عنها والمهتمّين بها، وبدأت بعض الدول تفكّر وتخطّط، منذ الآن، للمرحلة اللاحقة وللتغيّرات التي ينبغي أن تمسّ الكثير من المجالات والحقول، ومنها المجال الهندسي والتنظيم المدني. وشرعت مدينة باريس، مثلاً، في مضاعفة الحيّز المخصّص لعبور المشاة، بعدما ضاعفت، في الأشهر الماضية، ممرّات الدرّاجات، وذلك للحدّ من التلوّث وإيجاد الفسحة الصحّيّة اللازمة للعيش. ولقد ظهر في تحقيقات أجرتها وسائل الإعلام أخيراً توق البعض إلى مغادرة المدن الكبرى والإقامة في أماكن تكون أقرب إلى الطبيعة. تشجّعهم على ذلك شبكة مواصلات تصل بين هذه المدن وضواحيها والمناطق المحيطة بها.

وإذا كانت باريس تُعنى، منذ القرن التاسع عشر، بتزيين شوارعها وحدائقها بالأشجار والاعتماد على فوائدها الصحّيّة، فإنّ قراراً جديداً اتخذته بلديتها يقضي بزراعة عشرات ألوف الأشجار الجديدة. أمّا عدد الأشجار في الوقت الراهن فيناهز المئتَي ألف شجرة معظمها من الدلب والكستناء والزيزفون، وهي من الأشجار المعمّرة. تضاف إليها ثلاثمئة ألف شجرة في غابتَي بولونيا وفانسان المحاذيتين للمدينة. ولكلّ شجرة بطاقة هويّة رقميّة تحتوي على معلومات حول تاريخ زراعتها وريّها وتشذيبها ووضعها الصحّي (جروح، فطريّات، صَدَمات)، وذلك لتسهيل تشخيصها ورصدها بانتظام.

قد يكون وباء كورونا عاملاً مهمّاً في إعادة الاعتبار إلى الطبيعة ورؤيتها بعين جديدة واندفاع البعض إلى العودة إلى أحضانها. هذه الطبيعة التي تغنّت بها الحضارات الإنسانية منذ أقدم العصور في نصوص لا تزال حيّة إلى اليوم، من "نشيد الأناشيد" حيث "يفيح النهار وتنهزم الظلال"، إلى "كتاب الأناشيد" المنسوب إلى كونفوشيوس، لكن صياغته التي امتدّت من القرن العاشر إلى القرن السادس قبل الميلاد تعود إلى مجموعة من الكتّاب، ويتضمّن قصائد تضع الإنسان في قلب الكون وتعتبر أنّ التناغم مع الطبيعة هو الركيزة الأساسية للحضارة. ومن الشاعر الروماني أُوفيد الذي جمع الأساطير من اليونان ومصر وبلاد ما بين النهرين وأعاد صياغتها في كتابه "التحوّلات" حيث الكائنات البشرية تستحيل شخوصاً أسطورية أو نباتات وحيوانات وحجارة وكوكبة نجوم، إلى الإحساس بالطبيعة كما طالعنا في قصائد "الهايكو" اليابانية وفي تآخي الهنود الحمر مع العناصر. هذا الموروث الذي لا يرتبط بزمان ومكان، بل يبسط أجنحته على الأزمنة والأمكنة كلّها، هل آن الأوان ليصحو مجدّداً في الزمن الحديث؟

لقد أكّد الوباء الذي اجتاح العالم هشاشة الكائن الذي اخترع القنبلة النوويّة، كما أكّد عبثيّة الميزانيات العسكرية التي تقترب من الألفي مليار دولار سنوياً، وهذا ما يحيل إلى النظرية التي ينحاز إليها بعض العلماء ومفادها أنّ الإنسان في الطبيعة، بخلاف جبروته الظاهر والمُفتعَل، هو الحيوان الأكثر ضعفاً. وحده التنظيم الاجتماعي يسمح له بالبقاء. يبقى السؤال: هل تدفع الجائحة التي أوقفت عقارب الساعة فجأةً إلى إعادة نظر كاملة في أنماط الحياة وتوجّهات القوى العظمى والتعامل مع الطبيعة والبيئة والخروج من ثقافة لاإنسانيّة من أجل تأسيس ثقافة إنسانيّة قائمة على العدل والمساواة، أم يبقى على حاله صراعُ القوى المحكوم بالسيطرة والتسلُّط والاستعباد، استعباد الإنسان والطبيعة معاً، وهو صراع مفتوح على الهاوية فحسب؟


MISS 3