جيمي الزاخم

فنّ الأيقونة البيزنطية... أرضٌ تُزهر من تعبٍ وذهب

28 كانون الأول 2023

02 : 00

من محترف المعهد الأنطونيّ
على كتف جبل من التاريخ والجمال، نثبّتُ اليوم حروفَنا. نعلّقُها على حجارة فنّ الأيقونة البيزنطيّة. تحاول التغلغلَ في مغارتها المقدّسة، والبحث عن كنوزها. تُلاحق رحيقَها في عيون المتخصّصين فيها. معهم، الأيقونة ليست خشبة جامدة معلَّقة. هي نورٌ من نور. تتوهّج نجمةً على أمواج قلوبهم. وتُبحر في بحر من الدّلالات والرموز.

على تلة شماليّة ترتفع عن سطح البحر 230 متراً وتكشف الساحلَ الشمالي بكلّ تفاصيله، يقبع ديرُ القديس يعقوب الفارسيّ المقطّع للروم الأرثوذكس في بلدة ددّه - الكورة. ندخله لنغوص في بحر هذا الفنّ وأعماقه، دلالاته وتاريخه. عام 1975، أُرسلتْ راهبةٌ موهوبةٌ بالرّسم إلى اليونان لتعود محمّلةً بأسرار وأصول فنّ كتابة الأيقونة البيزنطيّة. علّمتْ أخواتِها الراهبات اللّواتي بدورهنّ يُسلِّمن التقنيّات والأدوات لمن يعقبهنّ. في حديثها معنا، تستفيض إحدى الراهبات اللواتي انغمسن في عالم الأيقونة منذ 40 عاماً. «نحن لا نتعلّم إلّا في الأديار. ودخول مشغل الدير ليس مُتاحاً للعامّة. لكنّنا نقدّم أجوبتنا على أسئلة المهتمّين. ومن وقت إلى آخر، نزور أديرةَ اليونان لمواكبة أيّ جديد في بحر الأيقونات البيزنطيّة». هذا البحر يشرب منه أيضاً مديرُ المعهد الفنيّ الأنطونيّ الأب شربل بو عبّود. ناداه فنُّ الأيقونات. «وخلال دراستي الفلسفة واللاهوت في روما، استدلّيتُ على أستاذ أيقونات يوناني انطلقتُ معه في هذا التخصّص الذي تابعتُه في شماليّ إيطاليا. وبعد عودتي إلى لبنان منذ 15 عاماً، كانت الرهبنة الأنطونية في طور تأسيس مدرسة للفسيفساء. نقلتُ ما تعلّمتُه لإنشاء قسم خاص بالأيقونوغرافيا كاختصاص يمتدّ على 3 سنوات دراسية إضافة إلى مرحلة الماجستير. كما نقيم دورات للراغبين».



إنّه فنّ كتابة في كتابه عن الفنّ البيزنطيّ والأيقونة، يقول الأب إسبيريدون فيّاض إنّ الايقونةَ البيزنطية «كتابٌ مقدّس مصوَّر بالألوان. إنّه فنّ يعرّف عن الإنجيل وحوادثه، مواضيعه ومعجزاته. الأيقونات ليست فنّاً من أجل الفنّ. إنّها صحفٌ مفتوحة تذكّر بالحقائق». هذه الحقائق وكما يسرد الأب بو عبود «وصلت في القرون القديمة إلى الشعب الأمّيّ من خلال الأيقونة التي نقول إنّنا نكتُبها ولسنا نرسُمها. لأنّنا نقرؤُها قراءةً روحيةً لاهوتية». فالأيقونة، كما توضح راهباتُ الدير، «هي عقيدةٌ أساسية في الكنيسة الأرثوذكسية».

شروط وقوانين الأيقونات، في المعهد الأنطوني وفي دير مار يعقوب، تُكتب وفقاً لتعاليم المدرسة الكريتيّة اليونانية. يختصر الأب شربل هويّتها «بالبعد الصوفيّ بكلّ عوالمها». حسب ما شرحوا لنا، إنّها تبتعد عن الأرضيّ الدنيويّ، على عكس المدرسة الروسية مثلاً التي لامست أيقوناتُها الطبيعةَ البشرية وفق مفاهيمها وحضارتها. «فكل مدرسة من المدارس الأيقونية المتعدّدة، تُترجم سماتِ المنطقة الجغرافية والحضارية من لون البشرة، القامة...». والأيقونة البيزنطية الكريتيّة تعتمد على الموادّ الطبيعية فقط. هي «تحمل بعدَ التجسّد الإلهي الذي شاركت به كل عناصر الكون. وهذا ما يحصل في كتابة الأيقونة: الإنسان يشارك بالكتابة، والله بالإلهام، والطبيعة بالخشبة والألوان، والحيوان بصفار البيض وقشور الأسماك أو جلد الأرانب». كل هذا وفق قوانين ومراحل مُحدَّدة لا يتسّع المقال لتفنيدها وتوضيحها. وبشكل مبسَّط ومُختصَر، تُعرّفنا الراهبات بها: «الخشبة (وترمز إلى الصليب) تُصقَلُ بورق الحفّ لتصبح ملساء. وتُدهن بصمغ مصدره جلد الأرانب أو قشور الأسماك. نأتي به من اليونان وأحياناً من فرنسا. تُذوَّب صفائحُه وتُدهنُ بها الخشبة لحمايتها من السّوس. يتبع ذلك تغليفٌ بقماشة غير مصنَّعة. وتُطلى 13 مرّة بمعجونة مُحضَّرة طبيعياً». وبعد التجفيف، يبدأ كاتب(ة) الأيقونة بتأسيس الخلفية ويرسم القدّيس على ورقة رصاص. تُكزّ بعدها الصورة بواسطة ورقة كربون طبيعية غير كيميائية. ثمّ تأتي مرحلة التلوين التي تنطلق من الألوان الداكنة الى الفاتحة كدلالة للانتقال من «الظلمة إلى النور». ولكلّ لون دلالة لاهوتية متأتّية من الكتاب المقدّس. ويلفت الأب بو عبود إلى أن الألوان الداكنة «تُدخل المؤمن في جوّ الصلاة». الألوان الطبيعية تُمزج بصفار البيض والخلّ. وتستخدمهما الراهبات كطلاء أخير للأيقونة إضافةً إلى البرنيق (varnish) للوقاية. وتُحفظ في مكانٍ جافّ غيرِ رطب.

أمّا كاتب(ة) الأيقونة «فيتحضّر بالصوم والصلاة المكثّفة والقراءات ليكون جاهزاً روحيّاً، بعدما حمل معه زوّادةً لاهوتية تُخوّله نسخ أيقونة معروفة أو كتابة أوّل أيقونة لقديس جديد». وهذا ما يُطلب من راهبات الدير الأرثوذكسي. تخبرنا إحداهن عن المسؤولية والصعوبة في كتابة ايقونة قديس لا أيقونة له. «نرافقه ويرافقنا. وهذا ما جرى مؤخراً عندما طلبت منهنّ الكنيسةُ أيقونةً للقديسين نقولا وحبيب الدّمشقيين، وقبلهما للقديس يعقوب الحماطوري. وكل أيقونة، حسب تفاصيلها وعدد ساعات العمل اليومية، تستغرق مدة طويلة. «فإنجاز أيقونة الميلاد يحتاج إلى ما لا يقلّ عن 3 أشهر وقد تصل إلى 6 أشهر».

عــــــلاج روحــــــيّ

تستذكر الأخت الراهبة أول أيقونة أنجزتْها بحجم كبير لوجه يسوع المسيح. «ما زالت هذه اللحظة نابضةً في ذاكرتي منذ 38 سنة. كنت أرتجف. بأيّ أيادي وعيون سأرسم السيد المسيح؟ فكاتب الأيقونة مسؤوليته عظيمة، يُوصل الربّ إلى البشر. وهذه عملية تغيّر الكاتب لا محالة. وتوطّد علاقته الروحية مع الله وقدّيسيه بالدموع، التأمّل، القلق والنعمة. هي تتغلغل إلى روحي وتشعّ نحو الآخر. هي رفيقة دربنا ودرب المؤمنين الذين يوطّدون علاقتهم معها بالصلاة العميقة». هذه الناحية الروحية النفسية يوليها الأب بو عبود أهمية بالغة. يحدّثنا عن بحث هو بصدد نشره، درس فيه التأثير النفسي للأيقونة. «هي علاج روحي تؤثّر وتدمغ. فكاتب الأيقونة يصلّي بأيقونته ويكوّن علاقة مباشرة مع صاحب الأيقونة».


هذه الأهميّة الروحية والكنسية للأيقونة البيزنطية تتجلّى في شغف المتحدّثين. يُسحَرون بها ويغارون عليها. لذلك أُسّست نقابةٌ للأيقونوغرافيين العام الماضي. وانتُخب الأب بو عبّود رئيساً لها. «هي مفتوحة للجميع. هدفنا تنظيم وحماية هذا الفنّ العظيم. وصَوْناً لهذا الإرث، وافق وزير الثقافة على إنشاء متحف للأيقونات في مبنى الوزارة، يكون شاهداً على قدسيّة وأهمية الأيقونة البيزنطية». حاولنا في هذا المقال الإضاءة على هذه الأهمية. وربّما لم ننجح بالتقاط نسيم روحيّتها. فيشرق نور وجهها بحروف ليست من ذهب تكتبُ عن فنّ بتاريخ ودلالات من تعبٍ وذهب.


أيقونة الميلاد في دير مار يعقوب... كُتبت عام 1979



الأب بو عبّود يضع اللمسات الأخيرة على الجداريّة



من أعمال راهبات دير مار يعقوب




MISS 3