مصطفى علوش

ما فائدة إسرائيل من توسيع دائرة الحرب؟

9 كانون الثاني 2024

02 : 00

«سَئِمتُ تَكاليفَ الحَياةِ وَمَن يَعِش

ثَمانينَ حَولاً لا أَبا لَكَ يَسأَمِ

رَأَيتُ المَنايا خَبطَ عَشواءَ مَن تُصِب تُمِتهُ

وَمَن تُخطِئ يُعَمَّر فَيَهرَمِ

وَأَعلَمُ عِلمَ اليَومِ وَالأَمسِ قَبلَهُ

وَلَكِنَّني عَن عِلمِ ما في غَدٍ عَمي

وَمَن لا يُصانع في أمور كثيرة

يُضرَّس بأنياب ويوطَأ بمنسم»

(زهير بن أبي سلمى)

يؤكد نعوم تشومسكي اليساري اليهودي الذي عايش قضية فلسطين ويعرف عن قرب القادة المؤسّسين لدولة إسرائيل، أنّ علاقة الولايات المتحدة بإسرائيل غير مرتبطة بالأساس في تعويض اليهود عن المحرقة ولا في تأمين ملاذ آمن لمن نجوا منها، فهو يعتبر أنّ الصهيونية المسيحية هي شكل فاقع من أشكال معاداة السامية لأنّها تحشر اليهود في فلسطين بانتظار معركة نهاية العالم (حر مجيدو) حيث يفنى الملايين منهم ويذهبون إلى الهلاك الأبدي، ما عدا فئة صغيرة (مئة وستون ألفاً) تتعرف إلى المسيح وتحظى بالخلود. لكنّ تشومسكي يعود ليقول إنّ إسرائيل أصبحت بقرة أميركا الحلوب، في مجال الحرب، منذ سنة 1967، يوم تمكّنت من تدمير دول وطنية تسعى إلى التحرّر، مثل مصر وسوريا، في منطقة استراتيجية تُختصر بوجود النفط فيها، كما لكونها نقطة وصل وفصل على المستويين الجغرافي والديموغرافي.

لكن، ماذا يعني كل ذلك؟ ما يعنيه هو أنّ مشروع السلام المستدام هو نهاية دور إسرائيل كموقع متقدّم لأميركا والغرب في المنطقة، بالتالي تفكّك اللحمة الداخلية وتلاشي الدعم والمحاباة الدولية. من هنا، فإنّ الصهاينة القوميين يدركون هذه الحقيقة، ويعتبرون أنّ الحرب هي السبب الأساسي لوجود دولتهم، وأنّ الحرب وحدها هي الوسيلة الوحيدة لتحقيق الأهداف، المرحلية منها والاستراتيجية. وذلك اقتداءً بمقولة الفيلسوف هيغل عن أنّ لا شيء مفيداً يحصل في التاريخ إلا في الحرب. من هنا الجدل الذي كان قائماً بين بعض الساسة في إسرائيل حول إمكانية الحفاظ على دولتهم على شاكلة مدينة أسبرطة الإغريقية، أي مدينة مسوّرة، شعبها مدجّج بالسلاح وجاهز للقتال، في مواجهة محيط عدائي.

هذا لا يعني أنّ كل اليهود في إسرائيل يريدون أو يرغبون في أن يكونوا وقوداً في حرب يقودها المسيح المنتظر، ولا أن يتحوّلوا إلى رأس حربة لأميركا والغرب، بل هناك تنوّع كبير في التركيب المجتمعي لدى يهود إسرائيل كما في نظرتهم إلى وجودهم في فلسطين منذ بداية المشروع الصهيوني منذ مئة وثلاثين سنة. فحتى الصهيونية، وهي تُختصر بمشروع العودة إلى جبل صهيون، لم تكن متّفقة على أسباب العودة. فاليسار رأى في فلسطين ملاذاً يعيش فيه اليهود والعرب بسلام وتعاون، والمتديّنون رأوا فيها إتماماً لوعد إلهي للتفرّغ للعبادة وبناء الهيكل الثالث، أما الذين سيطروا في النهاية على السياسة والقيادة فقد كانوا المؤمنين بالعنصرية اليهودية التي تتماثل مع العنصرية القومية الأوروبية التي سادت في القرنين التاسع عشر والعشرين وسيطرت على الفكر السياسي.

جدعون ليفي الصحافي الإسرائيلي الذي أخذ على عاتقه، منذ أن وعي لخطورة مشروع احتلال فلسطين على اليهود بالذات، كما على العرب، نشر هذا الوعي، يؤكد أنّ المجتمع اليهودي في إسرائيل تحوّل بالكامل إلى مجتمع أعمى وأطرش لم يعد يرغب بأن يرى أو يسمع إلا ما يرتاح لسماعه أو مشاهدته. ومع أنّ وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام الغربية تعرض مشاهد عن المجازر بحق الفلسطينيين، والدمار الهائل والمرعب الذي تقوم به آلة حربهم، إلا أنهم لا يتابعون إلا الأخبار الرسمية الإسرائيلية.

لكن، ماذا يعني كل ذلك؟ وما علاقته بقضية اغتيال قادة «حماس» في الضاحية الجنوبية، أو اغتيال القيادات الكبرى للحرس الثوري في سوريا؟ وما الفائدة من استدراج الخصوم إلى ساحة المعركة، على الرغم من خطورة تلك المغامرة وتداعياتها على إسرائيل بخصوص الخسائر المؤكدة عليها بحكم الوقائع على الأرض؟ لكنها ليست المرة الأولى في تاريخ الصهيونية التي تضحّي فيها بأعداد كبيرة من اليهود مقابل مكاسب استراتيجية. والمكان هنا لا يتّسع لسرد الشواهد على ذلك. لكن يكفي ذكر ما فضحته صحيفة هآرتس الإسرائيلية المعارضة خلال انتفاضة الحجارة عن تعاون اسحق شامير مع النازيين خلال الحرب العالمية الثانية لانتقاء بعض اليهود لتهريبهم من معسكرات الاعتقال.

ويمكن التذكير بلقاء أحد زعماء الهاغانا مع أدولف إيخمن، مهندس المحارق النازية، قبيل الحرب العالمية الأولى مؤكداً له أنّ سياسة ألمانيا النازية باضطهاد اليهود ستدفعهم للهجرة إلى فلسطين لتغيير المعادلة السكانية. وكل ما سبق موثّق ومعروف. من هنا، فإنّ توسيع الحرب سيدفع الدول المحتشدة بأساطيلها للمشاركة بشكل فاعل، ما يعني أنّ كرة الثلج قد تتدحرج لحرب شاملة لا يمكن معرفة حدودها. لكن قيادة إسرائيل الحالية ستسعى لتنفيذ «ترانسفير» جديد تحت غطاء تلك الحرب، عندما تتوجه الأنظار نحو المعارك الكبرى، لتصبح حرب غزة والضفة الغربية تفصيلاً ليس إلا في سياق المحرقة الكبرى.

MISS 3