ستيفن م.والت

الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني لن ينتهي قريباً لخمسة أسباب

15 كانون الثاني 2024

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

القوات الإسرائيلية تغادر قطاع غزة كما يظهر من موقع على الجانب الإسرائيلي من الحدود في جنوب إسرائيل | 8 كانون الثاني ٢٠٢٣

كل من يعرف تاريخ الشرق الأوسط الحديث ويتابع أخبار تلك المنطقة بانتظام يدرك على الأرجح أسباب استمرار الصراع الطويل بين يهود إسرائيل والفلسطينيين.

لكن قد يحمل غير المطّلعين على ذلك التاريخ مجموعة من الأسئلة المبررة: ما سبب المشكلة القائمة هناك؟ لماذا عجز الإسرائيليون والفلسطينيون عن تسوية خلافاتهم والمضي قدماً؟ تصالحت واشنطن مع ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية، وأصبحت العلاقات بين الولايات المتحدة وفيتنام ودّية اليوم. وحتى المجتمعات المضطربة، مثل جنوب أفريقيا وأيرلندا الشمالية، اتخذت مساراً يقودها نحو العدالة والسلام. ما سبب فشل جهود إنهاء هذا الصراع إذاً، وما الذي يفسّر نشوء أسوأ حملة دموية بين الإسرائيليين والفلسطينيين اليوم منذ تأسيس إسرائيل في العام 1948؟

في ما يلي خمسة أسباب رئيسية لاستمرار الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني وإمعانه في قتل الأبرياء، وزعزعة المنطقة، واستنزاف كميات متفاوتة من الرصيد السياسي الأميركي، ونشر مظاهر الخوف والمعاناة والظلم.

أهداف غير قابلة للتجزئة

ثمة مشكلة بنيوية حادة في عمق هذا الصراع. يريد القوميون الإسرائيليون والفلسطينيون معاً أن يعيشوا في مساحة الأرض نفسها ويسيطروا عليها، ويظن كل طرف منهما أن تلك الأرض من حقّه. يتكل كل فريق على أساس مختلف لتبرير قناعته، ويُصرّ على ضرورة تفوّق موقفه على مواقف الطرف الآخر. يضع محللو العلاقات الدولية هذه المواقف في خانة المشكلات «غير القابلة للتجزئة»: يصعب حل أي نزاع إذا كان تقسيم المشكلة المطروحة بطريقة ترضي الطرفَين مستحيلاً. تُضاف إلى هذه المشكلات مكانة القدس المعقدة والمتنازع عليها، إذ تُعتبر هذه المدينة مكاناً مقدساً للديانات الثلاث الكبرى. تشكّل هذه العوامل وصفة مثالية لنشوء اضطرابات متكررة. تعددت الاقتراحات التي دعت إلى تقاسم الأرض خلال القرن الماضي، لكن لطالما تلاشت الأصوات الداعمة للتسوية أو تم تهميشها من جانب الأطراف التي تريد السيطرة على كامل الأراضي المتنازع عليها. إنه جزء من مفهوم القومية للأسف.

المعضلة الأمنية

نظراً إلى استمرار المشكلة الأولى وتراجع مساحة الأرض المتنازع عليها، يواجه الشعبان معضلة أمنية خطرة. اعترف القادة الصهاينة منذ البداية بصعوبة أو استحالة إنشاء دولة يسيطر عليها اليهود وفيها أقلية عربية واسعة، فكيف لو كان العرب يشكّلون الغالبية فيها؟ هذه القناعة أطلقت حملات من التطهير العرقي خلال الحرب العربية - الإسرائيلية في العام 1948، ثم في العام 1967، حين استولت إسرائيل على الضفة الغربية. كان طبيعياً أن يشعر الفلسطينيون المطرودون وجيران إسرائيل العرب بسخط عارم ويتوقوا إلى عكس النتائج.

كان الاحتفاظ بالضفة الغربية وبناء المستوطنات فيها، تزامناً مع السيطرة على قطاع غزة، يعني أن يخضع ملايين الفلسطينيين للسلطة الإسرائيلية بشكلٍ دائم، ما أدى إلى نشوء المشكلة الديموغرافية التي حاول مؤسسو البلد تجنبها منذ البداية: انتشار أعداد شبه متساوية من اليهود والفلسطينيين في الأراضي التي تسيطر عليها إسرائيل. كانت مساعي إنشاء «إسرائيل الكبرى» لتجبر قادتها على منح كامل الحقوق السياسية إلى عدد مشابه من الفلسطينيين، أو إيجاد عذر آخر لطرد معظمهم، أو ترسيخ نظام فصل عنصري يتعارض مع التزام إسرائيل المزعوم بالديموقراطية وحقوق الإنسان.

هذه المعضلة الأمنية تزيد تعقيد الجهود الرامية إلى التفاوض على نشوء «دولتَين لشعبَين». في غضون ذلك، يُصِرّ المفاوضون الإسرائيليون على ضرورة نزع سلاح أي كيان فلسطيني مستقبلي، على أن تحتفظ إسرائيل بسيطرة واسعة على حدوده ومجاله الجوي كي لا تتمكن أي دولة فلسطينية محتملة من طرح تهديدات خطرة على إسرائيل. لكنّ هذا الترتيب يبقي الفلسطينيين في موقف ضعيف أمام إسرائيل ودول أخرى، ومن المبرر ألا يوافقوا عليه. يسهل أن نتصوّر ترتيبات أخرى لتحسين الوضع الأمني في كل معسكر وتشجيع الطرفَين على عقد مصالحة نهائية، لكن لا يمكن إرساء الأمن بشكلٍ كامل. وبعد هجوم «حماس» في 7 تشرين الأول والجرائم المرتكبة اليوم بحق الفلسطينيين الأبرياء في غزة، من الأصعب إقرار حل الدولتين في المستقبل المنظور.

جهات خارجية غير مفيدة

تأجّج الصراع بين هذين الشعبَين واستمر طوال هذه الفترة بسبب مجموعة من الأطراف الثالثة التي تتدخّل بطريقة تضمن مصالحها الخاصة وتعطي نتائج عكسية. أشعلت بريطانيا المشكلة عبر «وعد بلفور» في العام 1917، وأساءت التعامل مع تفويضها في عصبة الأمم خلال فترة ما بين الحربَين العالميتَين، ثم عبّرت عن استيائها من الوضع ونقلت المشكلة إلى الأمم المتحدة غداة الحرب العالمية الثانية. وبعد العام 1948، دعمت الدول العربية المتنافِسة فصائل فلسطينية مختلفة كجزءٍ من سلسلة عداوات عربية داخلية متكررة، ما أدى إلى إضعاف الوحدة الفلسطينية.

في غضون ذلك، سلّحت الولايات المتحدة إسرائيل بينما سلّح الاتحاد السوفياتي عدداً من الدول العربية الموالية له خلال الحرب الباردة لتحقيق مصالحهما الخاصة، ولم تتنبّه أي قوة عظمى منهما إلى تفاقم المشكلة الفلسطينية أو كبح قرار إسرائيل ببناء مستوطنات في أنحاء الضفة الغربية.

ثم تدخلت إيران في الصراع عبر دعم حركة «حماس»، و»الجهاد الإسلامي الفلسطيني»، و»حزب الله» في لبنان، وأرادت بذلك أن تكبح الجهود الأميركية لإعادة تنظيم المنطقة بطرق اعتبرتها طهران خطرة. لم تسهم هذه التدخلات الخارجية كلها في حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، بل إنها زادت الوضع المعقد سوءاً.

المتطرفون

في الشرق الأوسط، كما في أي مكان آخر، قد تكبح أعداد صغيرة من المتطرفين أي نوايا حسنة لحل المشكلات الشائكة أحياناً. كانت اتفاقية أوسلو للسلام خلال التسعينات أقرب ما توصّل إليه الطرفان لإنهاء الصراع بطريقة مُرضِية، لكن شارك المتطرفون في المعسكرَين في إضعاف هذا المسار الواعد لإرساء السلام. أدت سلسلة من التفجيرات الانتحارية التي نظّمتها «حماس» و»الجهاد الإسلامي الفلسطيني» إلى إضعاف المعسكر الداعم للسلام في إسرائيل، وقتل مستوطن أميركي إسرائيلي 29 فلسطينياً في العام 1994، في محاولة متعمدة منه لوقف جهود السلام. ثم أقدم إسرائيلي متعصّب آخر على اغتيال رئيس الوزراء إسحاق رابين، فساعد بنيامين نتنياهو بطريقة غير مباشرة على استلام منصب رئيس الحكومة.

لطالما كانت معارضة حل الدولَتين المبدأ التوجيهي لمسيرة نتنياهو السياسية كلها، حتى أنه ذهب إلى حد دعم «حماس» ضمناً بهدف إضعاف السلطة الفلسطينية المعتدلة التي كانت مهتمة بإقرار حل الدولتين. انكشفت نتائج تلك السياسة المأسوية في 7 تشرين الأول.

اللوبي الإسرائيلي

على عكس ما يفترض البعض، لا تتحمل جماعات مثل «لجنة الشؤون العامة الأميركية - الإسرائيلية»، أو «رابطة مكافحة التشهير»، أو «المسيحيون المتحدون من أجل إسرائيل»، مسؤولية استمرار الصراع وحدها، لكنها تُعتبر جزءاً من العوائق التي تحول دون إحراز التقدم، إلى جانب جماعات وأفراد بالعقلية نفسها.

بالإضافة إلى نشر رؤية منحازة عن الصراع في الأوساط السياسية الأميركية، سعت هذه الجماعات إلى إعاقة جميع المحاولات التي أطلقها أي رئيس أميركي لإنهاء الصراع. التزم الرؤساء بيل كلينتون، وجورج بوش الإبن، وباراك أوباما، علناً بدعم حل الدولتين، وأطلق كلينتون وأوباما محاولات جدّية لإقراره لأن إقامة دولتَين لشعبَين تصبّ في مصلحة إسرائيل، وفلسطين، والولايات المتحدة، والعالم أجمع، كما قال أوباما. لكن رغم نفوذ هؤلاء الرؤساء، لم يكن أيٌّ منهم مستعداً للضغط جدّياً على إسرائيل (عبر ربط المساعدات العسكرية الأميركية والدعم الديبلوماسي الأميركي بالتوصل إلى اتفاق عادل مثلاً). حتى أنهم عجزوا عن اشتراط وقف بناء المستوطنات الإسرائيلية والبدء بتفكيك نظام الفصل العنصري في الأراضي المحتلة مقابل المساعدات والحماية الديبلوماسية الأميركية.

وحتى أبرز المنظمات التي دعمت حل الدولتين رغم ولائها لإسرائيل لم تطالب القادة الأميركيين حتى الفترة الأخيرة باتخاذ هذه الخطوة أو الضغط على أعضاء الكونغرس لدعم زيادة الضغوط على إسرائيل. وبما أن إسرائيل لم تخضع يوماً للمحاسبة من أبرز جهة تدعمها وتحميها، لم تشعر جميع الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة بأنها مضطرة لتقديم التنازلات أو التفكير بعواقب أفعالها على المدى الطويل. هذا الوضع أنتج الكارثة التي تواجهها إسرائيل والفلسطينيون اليوم.

يشكّل كل واحد من هذه العوامل الخمسة عائقاً مخيفاً أمام السلام، وتبرز طبعاً عوائق أخرى لم تُذكَر في هذه اللائحة. يعني ذلك أن الصراع لن ينتهي في أي وقت قريب. إنها مأساة حقيقية للإسرائيليين والفلسطينيين على حد سواء، مع أن الفلسطينيين يتحملون أكبر الخسائر حتى الآن.

أخيراً، قد يتعرض اليهود حول العالم للمخاطر بسبب سلوك إسرائيل في حرب غزة راهناً، إذ تعزز ممارساتها مظاهر معاداة السامية في كل مكان. وبما أن إدارة بايدن تدعم حملة إسرائيل الوحشية والإلغائية في غزة، ستدفع الولايات المتحدة ثمناً باهظاً على المستويَين الأخلاقي والاستراتيجي بسبب دورها في هذه الكارثة. ما كان قادة العالم الراغبون في إضعاف دور واشنطن كزعيمة للنظام الدولي الليبرالي ليتمنوا هدية أفضل من التطورات الأخيرة في فترة الأعياد!

MISS 3