مصطفى علوش

عن تهافت الحلّ "الفدرالي الثقافي"

22 كانون الثاني 2024

02 : 00

«فقل لمن يدّعي في العلم فلسفة

حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء

لا تحظر العفو إن كنت امرأ حرجاً

فإنّ حظركه في الدين إزراء»

(أبو نواس)

قد يكون ما يلي خارجاً عن السياق الذي أخذته مقالاتي مؤخراً بالتركيز على الحدث الإقليمي الغزاوي، لكن الأزمات الكبرى تعيد دائماً الحديث عن حلول انتحارية على أساس أنّ الحلول الأخرى فشلت. من ضمن تلك الحلول المطروحة ما سمي «الفدرالية الثقافية».

في المقاربات الشعبية العفوية للأمور تظهر مسألة الأمثال كوسيلة لطرح النصائح، بالرغم من أنّ تلك الأمثال تواجهها عادة أمثال تعاكس مغزاها وتنفيه، مع أنّ تلك الأمثال المتعاكسة قد تنسب أحياناً إلى «الحكيم» ذاته، قد يكون الجد أو زعيم العشيرة أو شخصية ما ذات بعد تاريخي ديني ثقافي أو اجتماعي، هذا مع أنه لا يوجد أي دليل مثبت لتأكيد انتساب المثل لشخصية محددة، مع العلم بأنّ معظم الأقوال المأثورة تنسب إلى عدة شخصيات. الحلول الشعبية الأخرى تأتي من خلال جعل الاستثناء قاعدة، أي أن يصبح حدث ما، يأتي خارج سياق المنطق العلمي والعملي، قاعدة دائمة يؤمل أن تتكرر؟

المنطق الشعبي الآخر يأتي من تاريخانية حدث ما يعتبره البعض أنه قاعدة دائمة للتكرار، بغض النظر عن المتغيّرات الكبرى التي تجعل من تكرار الحدث المعين شبه مستحيل. لكن المثل والفكر الشعبي يبقى أقوى من العلم والتاريخ الموثق والدراسات المعمقة، ويتضاعف تأثيره عند الأزمات المستعصية على الحلول العقلية والعلمية.

من هنا، وفي ظل استعصاء الحلول للمعضلات الرابضة على صدورنا، عادت الأفكار «الخلاقة» للبحث عن حلول تستند إلى أمثلة سويسرية أو بلجيكية أو إماراتية أو أميركية، مزينة بخطاب هادئ ورزين و»علمي»، ومدعومة بشكل كثيف من البروباغندا الإعلامية المكلفة، ومستندة إلى رأي عام شعبوي ينادي بالطلاق بين المكونات الطائفية اللبنانية، طالما أنّ الزواج فشل بين تلك الشعوب المحشورة في مكان ضيق بالأساس، وبأنّ التجربة التي فرضها الفرنسيون لعيون البطريرك الحويك استنفدها التاريخ، أو ربما كانت بالأساس غير صالحة للتطبيق.

لن أسعى للجدال حول تلك الفرضيات الشعبوية من دون طائل، فمن هو مأخوذ بفكرتها لن يسمع أو يفهم أي نقاش حولها، فيتحول الجدل إلى اتهامات بالطائفية والداعشية، ويستخرج ملف لعبة الكلة التي تسببت بمجازر الجبل منذ أكثر من قرن ونصف، ومن ثم الناصرية والعرفاتية والأسدية وحرب الجبل والتهجير واللجوء السوري وداعش والنصرة، لتدخل في خلطة الفتوش اللبنانية أو البايلا الإسبانية.

سأركز فقط على طرح «الفدرالية الثقافية» كونه التعبير الملطف كبديل عن «فدرالية الطوائف». ويستعيض المروجون لهذه الفكرة بالتعبير الثقافي بدل الطائفي، أولًا لأننا فعلاً نعيش في فدرالية الطوائف بأساس مواثيقنا الوطنية مما يعني أنهم إن استعملوا الطوائف فهم لا يطرحون جديداً، وثانياً لأنّ تعبير «ثقافية» أكثر أناقة على السمع من الحديث المستهلك عن الطوائف.

المعضلة تأتي في توصيف ما هي الفدرالية الثقافية، خاصة لأنّ مطلقيها يستندون إلى القيد الطائفي للإشارة إلى حدود الوحدات الفدرالية، بغض النظر عن التشريح الثقافي لتلك الوحدات. أي أنّ صفصفة المناطق في فرع فدرالي يأتي على أساس الأكثرية المنصوص عنها في القيد الطائفي فقط لا غير ومن دون البحث في محتوى الفروقات الثقافية. وحتى لا يكون رفض الفكرة على عماها، أي من دون بحث وتمحيص في جدواها، نرى أنّ المكونات الأساسية لثقافة مجموعة من الناس تتضمن جملة من العناوين يمكن اختصارها باللغة المحكية كركن أساسي للثقافة، والدين ويشمل المعتقدات والشعائر والممارسات المرتبطة بها، والعادات والتقاليد، والفنون والجماليات، والمطبخ ونوعيات الطعام، والملبس والموضة، والبنية الاجتماعية والأسرية، والتاريخ والتاريخانية، والرمزيات والشعارات، والقيم والقواعد الأخلاقية، والمستوى العلمي والمعرفي، والتكنولوجيا والحداثة، والرياضة ووسائل الترفيه، ووسائل التواصل الاجتماعي، والمحرمات والأعراف، وأخيرًا البيئة المناخية والجغرافية.

لكن الأهم هو أنّ تلك العناصر تتشابك مع بعضها بشكل دينامي وتتغير وتتطور لتتلاءم مع الظروف والحقبات التاريخية والمتغيرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. لذلك تبرز ضرورة فهم تلك المكونات وكيفية ترابطها وتشابكها مع بعضها وتلاقحها من بعضها مما يؤكد أهمية التعددية والتنوع في إغناء وتنمية الثقافات العديدة من خلال الاحتكاك اليومي والمصلحي.

هذه الجملة من المعطيات تؤكد أن الدين ما هو إلا واحد من عدة مكونات ثقافية، لكن المعضلة تكمن في أن عنصر الدين قد يأخذ بعداً ثانوياً أو أساسياً في المكون الثقافي الفردي، وقد يكون غير موجود عند البعض، وأحياناً عند جزء كبير من المحسوبين افتراضياً على دين معين. لنأخذ مثلًا مسألة الصلاة أو الصيام، على أي دين يحسب حينها من لا يمارسهما؟ أو ما هو دين من يمارسهما فقط كعادة اجتماعية، ويشارك أيضاً آخرين من أديان أخرى بعض العادات؟ أما عن شرب الكحول، وهو ما يتردد دائماً كحجة لدعاة «الفدرالية الثقافية»، فلو حسبنا شاربي الكحول على طائفة واحدة لتضاعف حجمها لكثرة شاربي الكحول، أو حسبنا من لا يشربون الكحول لأسباب شخصية، فعلى أي دين يحسبون؟

كذلك يمكن الحديث على الملبس والمأكل والزواج المدني... في مسائل تختلط الأمور فيها بحيث يتضاءل البعد الثقافي الديني لتظهر طائفة جديدة بثقافة متلاقحة في كل شيء، بغثها وثمينها، من التذاكي المفرط إلى الهبل المتمادي، من الثقافة الواسعة وسع الكون إلى التفاهة المنغلقة على الذات، ومن قمة النزاهة إلى قعر الفساد. كلها ثقافات مشتركة بين لبنانيين من أديان شتى ومذاهب لا حصر لها. فكيف لفدراليي الثقافة أن يرسموا الحدود الجغرافية لكل هذا. فهذه الحدود ستمر حتماً على جسد كل واحد منا، يحمل في حناياه بعضاً من كل!

MISS 3