حسان الزين

نقص السياسة ثغرة الاحتجاج والاعتراض

27 كانون الثاني 2024

02 : 02

برز خلال انتفاضة 17 تشرين الأول 2019، وما سبقها من تحرّكات، عددٌ كبيرٌ من الناشطين. وهذا مؤشّر إيجابي على أمرين أساسيين، هما:

أن المزاج الاعتراضي الاحتجاجي على النظام وقوى السلطة وسياساتها وممارساتها ونتائجها في الدولة والسياسة والاقتصاد والمجتمع والثقافة، عريض وحيوي؛

وأن هذا المزاج، الممتد في المناطق اللبنانية كلها، خصبٌ وقادرٌ على تقديم أشخاصٍ مؤهّلين للقيادة والتعبير عن المزاج والتأثير في الرأي العام.

لكن، ثمة ثغرة بقيت ماثلة في المشهد المجمل لمزاج الاعتراض والاحتجاج، وفي أداء معظم الناشطين.

هذه الثغرة هي نقصُ السياسة وثقافتها وممارستها. ويصل الأمر، لدى كثيرين، إلى نقض السياسة لمصلحة تقدّم الأيديولوجيات والخطابات والشعارات والعظات الأخلاقية.

لا يتحمّل مسؤولية هذه الثغرة واستمرارها الناشطون، إذا ما جرى تناولهم كأفراد، وإن كانوا معنيين بالتصدّي لها كأشخاص، خصوصاً أن عدداً لا بأس به منهم كانوا أو ما زالوا في أحزاب وتشكيلات عقائدية سياسية. وهناك فئات واسعة منهم تشتغل في المجال العام وملتزمة بقضاياه وتعمل في مساحات متشابكة مع السياسة أو مطلّة عليها، وفي الاقتصاد والقوانين والحقوق وشؤون المجتمع والإعلام، وما إلى ذلك.

هذه الثغرة من فعل الحرب، ومن النتائج «الباهرة» لنظام الميليشيات والمال الذي حلّ بعدها مرعيّاً خارجياً، إذ دَمّرت قواه الحياةَ السياسية واحتكرت ركامها وأمعنت فيه. وآخر محطّات ذلك تعاملها القمعي والتشويهي والتجويفي مع انتفاضة 17 تشرين.

وعلى الرغم من ذلك، لا إعفاء لأحد من المسؤولية. فالأحزاب والتشكيلات الاعتراضية الاحتجاجية، ومعظمها تاريخي، نادراً (جداً) ما توفّر بيئة لإنتاج مثقفين سياسيّاً، بل تربّي في الغالب أعضاء وكادرات حزبيين عقائديين وخطابيين. والوافدون إلى الاعتراض والاحتجاج من أحزاب وتشكيلات ضعفت أو تلاشت، أو غادروها، غالباً ما حملوا معهم، منها، عقائدَ وخطاباتٍ وأساليبَ عمل وأشكال سلوك. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الناشطين المتأثّرين بالحركات الاجتماعية وثقافتها الضدّية تجاه السياسة وممارستها وقواها.

وإذا ما أضفنا، إلى هؤلاء، المتظاهرين (في الشوارع وعلى وسائل التواصل) الآتين من مشارب وتجارب وتوجهات واعتبارات وتعبيرات مختلفة بعددهم، ومعهم العبثيون «ومطلقو الرصاص» في الهواء وعلى كل من يختلفون معه، نغدو أمام مشهد فوضوي. والهدف الأول الذي ينسفه هذا «الكوكتيل» هو السياسة والعمل السياسي المنظّم أو المجدي.

ومن نتائج هذه الثغرة البنيوية للسياسة وثقافتها وممارستها، وحضور الخطابات والشعارات والعظات، أنّ حدثاً وطنيّاً تاريخيّاً ضخماً، هو 17 تشرين، لم يُترجم فعلاً سياسياً ذا أهداف ومشروع وإطار تنظيمي وبرنامج عمل. ففيما مارست قوى السلطة العنف والضغط، لم يلتفت الاعتراضيون والاحتجاجيون، بالشكل الكافي، وحيث ومتى يجب، إلى ضرورة السياسة. بقيت الخطابات العقائدية والانقسامية، والشعارات والعظات، هي الأقوى وهي الحاجز تجاه السياسة. وأُضيفت إليها حساباتُ الأحزاب والتشكيلات والمجموعات والأفراد. وتحت ضغط قوى السلطة واستشراسها الشوارعي والسياسي والأمني والإعلامي والتواصلي، وتحت وطأة خطابات الانقسام الإقليمي- المذهبي، وغياب الحياة السياسية، رُفعت المتاريس وأُقفلت المعابر أمام السياسة وإمكانات ممارستها وإنتاج مشروع وبرنامج عمل وإطار تنظيمي (أو أكثر).

هذه تجارب يُفترض أن تقوّم وتُستخرج منها الدروس. وذلك، في الأحزاب والتشكيلات والمجموعات، وعلى مستوى الأفراد. والامتحان هنا: إما يغرق التقويم في الصراعات والانتقادات ورمي المسؤوليّات والاتهامات، كلّ على الآخرين، ولهذا نتائج كارثية المستفيد منها قوى السلطة؛ وإما يُعترف بثغرة السياسة ويُعمل لمعالجتها، فكريّاً وسياسياً وتنظيميّاً، ومن موقع معارض نقدي متجاوز (وعياً) للتجارب وركام الأيديولوجيات والخطابات والحياة السياسية.

تبدأ السياسة من وعي غيابها ونقد ذلك، ومن وعي أنّها إنتاج جماعي منظّم وديمقراطي. ولن تكون من غير ذلك، أو ستكون تقليدية ونسخة استهلاكية.

بعيداً من ذلك، لا يبدو الطريق واضحاً لإنتاج رؤية للبنان، ومشروع فكري وسياسي، وبرنامج عمل، وإطار تنظيمي ديمقراطي، أي الارتقاء من الاعتراض والاحتجاج إلى المعارضة.

MISS 3