بونيت تالوار

إيران والولايات المتحدة... تاريخ من الحسابات الخاطئة

4 تموز 2020

المصدر: Foreign Affairs

02 : 00

قبل ظهور فيروس كورونا المستجد، بدا وكأن الولايات المتحدة وإيران تتجهان نحو صدام حتمي. سرعان ما اختفت هذه المخاوف من عناوين الأخبار الدولية وحلّت مكانها أنباء يومية عن وباء "كوفيد - 19". لكن فيما يستعد العالم لموجات جديدة من الفيروس خلال الأشهر المقبلة، يجب أن يتهيأ أيضاً لتجدد الاضطرابات بين الولايات المتحدة وإيران. تجازف التطورات السياسية داخل البلدَين معاً بتصعيد الوضع. يتمسك كل طرف بمواقفه ويتخذ قرارات مبنية على فرضيات شائبة. في غضون ذلك، بدأ احتمال التوصل إلى حل دبلوماسي يتلاشى مع مرور الأيام.

أخطأت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب في حساباتها حين تخلّت عن الاتفاق الإيراني النووي منذ سنتين واختارت سياسة "الضغوط القصوى". راهن الأميركيون حينها على حضور طهران إلى طاولة المفاوضات بعد فرض عقوبات على صادرات إيران النفطية وموافقتها على تقديم تنازلات واسعة النطاق حول برنامجها النووي وإنهاء سياساتها العدائية في المنطقة.

لكن أعطت تلك الاستراتيجية نتائج عكسية مريعة. بدل الاستسلام، ردّت إيران عبر سياسة سمّتها "المقاومة القصوى"، فكثّفت جهودها النووية، وخفّضت المدة المطلوبة لتطوير برنامجها النووي وإيصاله إلى مرحلة إنتاج الأسلحة من سنة على الأقل بموجب الاتفاق السابق إلى ثلاثة أشهر اليوم.

كذلك، هاجمت إيران سفن شحن النفط والبنى التحتية في المنطقة وسببت اضطرابات كبرى في الأسواق خلال السنة الماضية وأسقطت طائرة أميركية بلا طيار. أطلقت الميليشيات المدعومة من إيران أيضاً اعتداءات صاروخية ضد القوات الأميركية المتمركزة في العراق. قُتِل متعهد دفاعي أميركي خلال هجوم مماثل، ما دفع إدارة ترامب إلى استهداف الجنرال الإيراني قاسم سليماني بضربة جوية. ثم ردّت إيران بهجوم صاروخي أسفر عن إصابة عشرات العناصر الأميركيين.

سرعان ما تصاعد التوتر بين البلدين ووجدت إدارة ترامب نفسها وحيدة في هذه المواجهة. كانت الإدارة السابقة في عهد الرئيس باراك أوباما قد حشدت تحالفاً واسعاً لفرض ضغوط ناجحة على إيران. لكن أصبح ذلك التحالف الآن في حالة يرثى لها. اليوم، يعبّر أقرب حلفاء الولايات المتحدة في أوروبا عن اعتراضهم على السياسة الأميركية طوال الوقت.

لكن بدل محاولة إنقاذ الدعم الدولي الضئيل، تُضاعف إدارة ترامب جهودها لتدمير ما تبقى من الاتفاق النووي، فتُمعن في تهميش شركاء الولايات المتحدة السابقين. حتى أنها ذهبت إلى حد اتخاذ خطوة انهزامية بامتياز تقضي بإلغاء الإعفاءات من العقوبات، مع أنها اعتبرت هذا التدبير ضرورياً في السابق لتحقيق الأهداف الأميركية في مجال منع الانتشار النووي.

ثم زادت إدارة ترامب الوضع سوءاً عبر استعمال حجة قانونية مثيرة للجدل لتمديد قرار حظر الأسلحة الصادر عن الأمم المتحدة ضد إيران، علماً أن صلاحيته تنتهي في تشرين الأول المقبل بموجب شروط الاتفاق النووي. يظن أبرز حلفاء الولايات المتحدة في أوروبا أن تمديد ذلك الحظر مبرر. لكنّ إدارة ترامب أزعجتهم بشدة حين هددت بالعودة إلى أحد بنود القرار 2231 الصادر عن مجلس الأمن لتكريس الاتفاق النووي. ينص ذلك البند على إعادة فرض جميع العقوبات والضوابط التي أقرّتها الأمم المتحدة على إيران، علماً أن اتفاق العام 2015 كان يدعو إلى رفعها، بما في ذلك حظر الأسلحة وأحكام أخرى كثيرة. وبما أن الولايات المتحدة انسحبت رسمياً من الاتفاق في العام 2018، يصعب عليها أن تقنع الأطراف الأخرى بالموافقة على إعادة فرض العقوبات، ما يزيد صعوبة التوصل إلى موقف دولي موحّد.

قراءة خاطئة للسياسة الداخلية

بعد أكثر من 40 سنة على غياب العلاقات الدبلوماسية، من الواضح أن الولايات المتحدة وإيران لا تتفاهمان جيداً وتكثر الحسابات الخاطئة بينهما. لا يدرك أي طرف منهما مدى تداخل تحركاته مع التيارات السياسية الداخلية في البلد الآخر، وهذا ما قد يدفع البلدين إلى الصراع.

تظن إدارة ترامب أنها جعلت إيران على وشك الانهيار. يواجه الاقتصاد الإيراني أزمة كبرى طبعاً. تذكر تقارير صندوق النقد الدولي أن الناتج المحلي الإجمالي في إيران بلغ 7.6% في العام 2019 وتتوقع تراجعه بنسبة 6% في العام 2020. لكنّ هذه الإحصاءات الاقتصادية القاتمة لا تكشف كامل القصة. ربما يعيش الإيرانيون العاديون معاناة كبرى، لكن يعمد المتشددون في الحرس الثوري الإيراني وحلفاؤهم إلى إحكام قبضتهم على السلطة. حتى أنهم يستفيدون من العقوبات على ما يبدو نظراً إلى سيطرتهم على شبكات التهريب التي تتكل عليها إيران بشكلٍ متزايد لكسب العائدات.

رداً على الاحتجاجات المعادية للحكومة في الخريف الماضي، قتل المتشددون مئات المتظاهرين بكل وحشية. وفي شهر شباط، فاز المتشددون في الانتخابات البرلمانية التي شهدت نسبة مشاركة متدنية بدرجة غير مسبوقة. هم يتطلعون الآن إلى الانتخابات الرئاسية في السنة المقبلة. لكنّ أولوياتهم الاستراتيجية الكبرى تتعلق بأن يحافظ خَلَف المرشد الأعلى الإيراني البالغ من العمر 81 عاماً على امتيازات الحرس الثوري الإيراني.

يبدو أن إدارة ترامب استخفت بصعوبة استئناف المحادثات مع إيران بعد انسحابها من الاتفاق النووي. لا يزال المتشددون الإيرانيون، بما في ذلك المرشد الأعلى، يحملون عدائية إيديولوجية تجاه الولايات المتحدة. هم يكرهون ميل ترامب إلى الاستعراض العلني، كما حصل خلال قمة سنغافورة مع كوريا الشمالية. وعلى عكس كوريا الشمالية، لا تعتبر إيران المفاوضات مع الولايات المتحدة مكافأة بحد ذاتها. من الطبيعي أن تشعر أي حكومة وُلِدت من رحم الثورة وتعتبر معاداة الأميركيين من أبرز مبادئها بأن التنازل للولايات المتحدة يطرح تهديداً أكبر من المصاعب الاقتصادية.



لوحة جدارية مناهضة للولايات المتحدة في طهران - كانون الثاني 2020



كذلك، تجازف السلطات الإيرانية بهندسة سياساتها بناءً على قراءات خاطئة ومكلفة لنوايا خصمها، لا سيما إذا كانت تصدّق كلمات ترامب حرفياً. تعهد الرئيس الأميركي بإنهاء "الحروب اللامتناهية" وكرر رغبته في الانسحاب من الشرق الأوسط. حتى أنه قدّم عروضاً متكررة لإيران، على غرار تغريدته الحديثة التي يعرض فيها "صفقة أفضل" قبل الانتخابات الرئاسية في تشرين الثاني المقبل. لكن تعتبر طهران هذه المبادرات تأكيداً على نجاح سياساتها.

سعت إيران إلى فرض الضغوط عبر تطوير برنامجها النووي ومهاجمة شركاء الأميركيين في الخليج العربي. كما أنها تريد الانتقام لمقتل سليماني، وقد يدفعها هذا الهدف إلى التفكير برهانات خطيرة. لا تريد إيران خوض الحروب، لكنها قد تظن أن ترامب لا يحبذ الحرب أكثر منها. لا تدرك السلطات الإيرانية على الأرجح أن ترامب لن يتحمّل الظهور بصورة الزعيم الضعيف أمام قاعدته الشعبية، وتحديداً خلال هذه السنة الانتخابية. قد يفترض المسؤولون في العاصمتَين أنهم قادرون على احتواء أي مناوشات عسكرية محتملة سريعاً، كما فعلوا في كانون الثاني الماضي، حتى أنهم قد يحصدون منافع محلية من الاشتباكات المحدودة. يُقال إن عدداً من كبار مستشاري ترامب دافع عن الضربات العسكرية في آذار لدفع إيران إلى المشاركة في المفاوضات. هذا التفكير الوهمي خطير وليس بديلاً عن تقييم الوضع بموضوعية وعقلانية.

على أرض الواقع، تفتقر إدارة ترامب على ما يبدو إلى استراتيجية دبلوماسية لمنع تقدم البرنامج النووي الإيراني على نحو خطير. ربما ساهمت العقوبات في زيادة الفقر في إيران، لكن صعّد البلد في المقابل أعماله العدائية في المنطقة عبر شن عمليات منخفضة الكلفة نسبياً. في النهاية، لا يزال البلدان على طريق الصدام.


مـــــــخـــــــرج فـــــــي الأفـــــــق؟

هل من طريقة للخروج من هذا المستنقع؟ قد يكون المخرج موجوداً شرط أن تتخلى الولايات المتحدة عن مقاربتها الفاشلة راهناً.

في عهد أوباما، بين العامين 2012 و2013، وافقت إيران على ضبط برنامجها النووي وكبحه خلال المحادثات السرية معها مقابل تخفيف العقوبات بدرجة محدودة. هذا التقدم مهّد لعقد الاتفاق النووي في العام 2015. كانت الضغوط حينها، كما في الوقت الراهن، عنصراً أساسياً من المقاربة الأميركية. لكن برز أيضاً عاملان آخران لضمان نجاح تلك المساعي وهما غائبان اليوم. أولاً، قدّم الأميركيون عرضاً دبلوماسياً واقعياً يتمحور حول اعتبار البرنامج النووي أكبر تهديد إيراني على الأمن القومي الأميركي. ثانياً، حصلت الولايات المتحدة حينها على دعم جبهة موحدة وواسعة من القوى الكبرى.

اليوم، ترفض إيران التحاور مع إدارة ترامب في ظل استمرار العقوبات الأميركية. لذا يقضي الخيار الدبلوماسي الوحيد في هذه الظروف بالاستعانة بوسيط. أحرز الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تقدماً في هذا الملف في السنة الماضية حين حاول لعب دور الوساطة لعقد اتفاق محتمل. كذلك، حاول رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي ورئيس الوزراء الباكستاني عمران خان أداء دور الوساطة. يستطيع ترامب أن يستعين بهؤلاء الوسطاء أو سواهم لنقل عرضه حول اتفاق موقّت يطلب من إيران إبطاء تقدمها النووي وإنهاء الاعتداءات ضد الجنود الأميركيين وشركاء الولايات المتحدة، مقابل استفادتها من رفع العقوبات بدرجة محدودة.

هذا الاتفاق لن يحل جميع المشاكل مع إيران ولن يعطي ترامب الاستعراض العلني الذي يتوق إليه، لكنه قد يعالج أكثر المخاوف إلحاحاً في مجال الأمن القومي الأميركي ويمهّد لنقاشات واسعة في أقرب فرصة، مع أنها ستكون صعبة ومتطلّبة حتماً.

تُعتبر المبادرات الإنسانية مبررة أخلاقياً دوماً وقد تسهم في تخفيف الاضطرابات. على ترامب أن يخفف العقوبات لإرسال المعدات الطبية إلى إيران ومساعدتها على محاربة فيروس "كوفيد - 19"، وهذا ما دعا إليه عدد من المسؤولين والقادة الأميركيين والأوروبيين السابقين. كذلك، قد تستفيد إيران والولايات المتحدة من صفقة تبادل الأسرى الأخيرة لعقد اتفاق أوسع يضمن عودة جميع الأميركيين المحتجزين في إيران بتُهَم مفبركة إلى ديارهم.

ستكون هذه الخطوات أفضل مقاربة عقلانية في هذه الظروف، شرط أن تصبح جزءاً من مسار دبلوماسي واضح في المرحلة المقبلة. لكن للأسف، لا يبدو أي طرف مستعداً لاتخاذ مسار مماثل نظراً إلى المستوى الاستثنائي من انعدام الثقة بين الطرفين واقتناع كل بلد بأن استراتيجيته فاعلة. لذا من المتوقع أن يتصاعد التوتر ويتأجّج بوتيرة متقطعة بين إيران والولايات المتحدة خلال الأشهر المقبلة.


MISS 3