شربل داغر

الماضي بدل التراث

5 شباط 2024

02 : 00

مهما قيل ويقال عن شروط النقد الجاد وضوابطه، فإنه يتلاقى، في كثيره، مع «مناخات» سارية في الفضاء العمومي.

فالتفرد إذا كانت له مسوغات في «طلة» القصيدة على القارئ، فإن هذه الطلة ليس لها ما يبررها في البحوث، ما دام مجهود الباحث يقاس في بناء المعرفة وتقدمها،

بينما نتحقق، في عدد من الكتب البحثية، من أنها تطلب إثارة الغبار ليس إلا...

إذ قلما نجد فيها أنها تطلب بناء المنهج المناسب. كما لا نجد هذه الكتب تتفقد المدونة بما يناسب إعادة النظر فيها، أو تعميق المعرفة فيها، أو تعديلها. هكذا تروج ألفاظ ومفاهيم من دون فحص، مثل: التراث، والثابت والمتحول، والأديب الفلاني نموذجاً، والنقد (الفلاني) بديلًا، وغيرها.

ولقد خلصتُ، بعد بحوث ودراسات وكتب، إلى وجوب ترك الكلام عن: «التراث»، وإلى اعتماد الكلام عن: «الماضي» التاريخي.

فالحديث عن «التراث» يُعزز التملك المتأخر لسردية الماضي، فيما لا نعقل هذا الماضي بالضرورة تعقلاً مناسباً، عدا أننا نكون، في هذا، نُسقط التاريخ وتقاطيعه لصالح الوهم بالاستمرار والديمومة الجوهرانية لأنفسنا.

ذلك أن اشتغالي، في ميدانَي درسِ الأدب والفن، أظهر لي وجوب التمييز بين ثقافة قديمة «محتكمة إلى ذاتها»، وبين ثقافة أخرى، مستجدة، ذات مرجعيات منفتحة ومتغيرة.

هذا ما شهدتْه هذه البلاد، وهذه الثقافة، في الطور الأخير من الحقبة العثمانية، وفي سياقات مختلفة في الولايات العربية منها.

هذا ما جعل الثقافة لا تستمر وفق منوالها القديم، بل وفق «إعادة برمجة» لها (إن صح القول)، ووفق جدولة جديدة لها ذات أنواع ناشئة، وتبعاً لقيم متحولة.

هذا ما جعل «الأدب» يتغير، وبات يتعين في: الشعر العصري، والرواية، والمسرحية، والمقال الأدبي وغيرها، فيما اختفت أنواع الشعر القديم، والمقامة، والحكاية، ونمط الحديث، وثقافة النقل وغيرها.

هذا ما جعل الفن الإسلامي يكتسب مكانة لم تكن له، إذ أصبح من «الفنون الجميلة»، إلى جانب الشعر وغيره.

هذا ما أوجد لفن التصوير والرسم أنواعه وأشكاله ومكانته الرمزية والاستثمارية غير المعروفة، وغير المسبوقة.

هذا الحراك الواسع يحتاج إلى إظهار، وتحديد، في سرديات، كما في تعابيره وتجلياته، أو في تلازمه مع سياقات وشروط خارجية عليه، في السياسة والتعليم والتداول.

ذلك أن الدرس العربي المتأخر يُحَكِّم المنظور «الشعبوي» في النظر إلى تاريخه، وثقافته، وأدبه، وفنونه، فلا نمتلك تاريخاً مناسباً لِما جعلنا نستأنف وجودنا المجدد، ونَحضر في عالم اليوم.

لهذا ترى النقد يتلهى، في بعضه، بكيانات لفظية، بدمى ثقافية، أنتجَها بنفسه في تراجع الثقافة العام، وراح يتبارى فيها، ويتكرر فيها.

كما لو أن بؤس الثقافة، إذ يتعمم، ويتكرر في ألفاظ، في مجلات ودراسات وكتب، يوحي لأصحابها بأنهم سائرون فوق دروب التاريخ السديدة.

MISS 3