جو حمورة

أفول "الأمة العظمى": هل تخرج فرنسا من الجغرافيا والتاريخ؟

5 شباط 2024

02 : 00

ماكرون متحدّثاً خلال مؤتمر صحافي في بروكسل الخميس الماضي (أ ف ب)

تتهاوى أطلال «La Grande Nation» (الأمة العظمى) أمام أعيننا. إن فرنسا التي حكمت العالم لقرون، تواجه اليوم شبح الخروج التام من الجغرافيا والتاريخ. تُثير ظاهرة الخروج هذه جدلاً واسعاً في الأوساط السياسية والإعلامية. فكيف لدولة عظمى، حكمت العالم لقرون، أن تُصبح اليوم في تراجع ملحوظ على مختلف الصعد؟

لنأخذ أفريقيا على سبيل المثال. تُعدّ هذه القارة مسرحاً واضحاً لتراجع النفوذ الفرنسي. فبعد عقود من الاستعمار والسيطرة، تخرج فرنسا من القارة السمراء تاركة وراءها شعوباً غاضبة ودولاً فاشلة. ففي الجزائر، ما زال جرح الاستعمار ينزف، فيما يتصاعد الشعور المناهض لفرنسا هناك، بينما تعاني دول الساحل من الإرهاب والفوضى. أما مالي، فإن انسحاب فرنسا منها بعد صراع دام 9 سنوات، تاركة الساحة مفتوحة أمام الجماعات الإرهابية، فيشكل نقطة سوداء على سجلها ونفوذها الدولي. كذلك الأمر في دول أخرى في المنطقة، حيث يتراجع النفوذ الفرنسي ويُستبدل بصعود نجم الصين والهند وتركيا كشركاء تجاريين واقتصاديين رئيسيين مع دول أفريقيا.

تتعدد العوامل التي أدّت إلى تراجع فرنسا في أفريقيا. فمن ناحية، تُواجه فرنسا صعوبة في التعامل مع التغييرات الديموغرافية والسياسية في القارة. إن الشباب الأفريقي لم يعش فترة الحضور الفرنسي الجدي، ولا يشعر بأيّ رابط مع فرنسا. من ناحية أخرى، تفتقر فرنسا إلى استراتيجية واضحة للتعامل مع التغييرات في «القارة السوداء»، فسياسة «فرنسا - أفريقيا» التعاونية التي اعتمدتها باريس لعقود، لم تعد فعّالة في ظلّ التغييرات الجارية.

بالتوازي مع تراجع فرنسا في أفريقيا تتصاعد قوى جديدة على الساحة الدولية كما في القارة، مثل الصين وتركيا والهند. تضخّ الصين استثمارات ضخمة في البنية التحتية الأفريقية، بينما تبني تركيا علاقات قوية مع الدول الأفريقية وتُوقّع اتفاقات تجارية وعسكرية وتُقدّم المساعدات الإنسانية والتنموية، فيما تُقدم الهند نموذجاً للتنمية والتقدم والتعاون التقني والتكنولوجي مع الدول الأفريقية.

فيما تواجه فرنسا تحديات جسيمة تُهدّد دورها التاريخي كقوة عظمى، عليها إعادة بناء علاقاتها مع الدول الأفريقية على أُسس جديدة تُراعي التغييرات الديموغرافية والسياسية في القارة. كما عليها مواجهة صعود قوى جديدة مثل الصين والهند وتركيا، والبحث عن حلول للتحديات الأمنية التي تُواجهها في العالم. وأخيراً، عليها إعادة تعريف دورها على الساحة الدولية بما يتناسب مع التغييرات الجارية في العالم.

لنأخذ مشاركة فرنسا في القوات المتعددة الجنسيات كقوات «اليونيفيل» في جنوب لبنان مثلاً أو في أماكن أخرى. تخاف باريس على أمن جنودها هناك. ما نفع الجندي إن كان الخوف على حياته أكبر من الخوف منه؟ ما قيمة الجنود إن كان الخطر على حياتهم أكثر أهمية ووقعاً من حضوره الميداني وقدرته على الفِعل والقتال؟

هذا الفارق الحقيقي بين الولايات المتحدة الأميركية، بوصفها قوة عظمى، وفرنسا بوصفها قوة متراجعة. بإمكان واشنطن ضرب أيّاً كان عسكريّاً على كوكب الأرض، وهي تفعل ذلك الآن في اليمن وسوريا والعراق وأماكن أخرى، فيما لا تستطيع باريس حماية حدودها من الهجرة حتى أو القيام بأي عمل عسكري حقيقي في أي ميدان في العالم. إن غياب قدرة أي دولة على التحرّك الجدي في أي ميدان يُخرجها من الجغرافيا، كما يُخرجها من التاريخ إن باتت قليلة الحيلة والمقدرة.

إنّ مستقبل فرنسا، وعودتها إلى مسرح التاريخ والجغرافيا مرهون بقدرتها على التكيّف مع التغييرات الجارية في العالم. فإذا تمكنت من إعادة تعريف دورها على الساحة الدولية، ومواجهة التحديات التي تواجهها، فقد تتمكّن من إعادة إحياء دورها كقوة تؤخذ على محمل الجد.

لا شك أن خروج فرنسا من الجغرافيا والتاريخ هو حدث تاريخي هام. فالأمة التي حكمت العالم لقرون، تواجه اليوم تحديات جمة. يبقى أن نرى كيف ستتعامل فرنسا مع هذه التحدّيات، وهل ستتمكّن من إعادة إحياء دورها على الساحة الدولية، أم أن أفول «الأمة العظمى» بات أمراً حتميّاً لا مفرّ منه؟

MISS 3